Saturday 23rd of November 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    14-Mar-2008

تجربة الكاتب التونسي عبد الجبّار العشّ الروائية علي محكّ النقد الجديد

القدس العربي - شهد فضاء دار الثقافة الزهور بتونس محاضرة نقدية متميزة قدّمها الكاتب والناقد التونسي كمال الرياحي. حول أعمال الروائي التونسي المجدّد عبد الجبّار العشّ.

المحاضرة امتدّت حوالي الساعة وأعقبها نقاش متميّز شارك فيه عدد كبير من الكتّاب والنقاد والأكاديميين الذين أثنوا جميعا علي قيمة ما قدّمه الرياحي. الذي خصّ روائي تونسي مهمّش يعيش بعيدا عن العاصمة في عزلة مع الكتابة والكأس.

والحق أن المحاضرة قد نجحت علي جميع الأصعدة ابتداء من اختيار المدوّنة الجريئة لعبد الجبّار العشّ وهو أحد ملاعين الكتابة في تونس تذكّرنا سيرته وكتاباته بعوالم محمد شكري وجان جينيه ونجحت المداخلة في التقاطها لزاوية نظر دقيقة هي الحركة السردية فقد قطع الرياحي مع المقاربات النقدية الكلاسيكية التي ملّها المتلقّي وقدّم رؤية نقدية جديدة قائمة علي التفكير والتعمّق في استراتيجيات الكتابة الفنّية عند العشّ مركّزا علي قيمة الحركة السردية وتنوّعها في رواية وقائع المدينة الغريبة ورواية افريقستان ورواية محاكمة كلب .

حملت المداخلة عنوانا دالاّ هو الحركات السردية في روايات العشّ بدأها بقوله يمثّل عبد الجبار العش واحدا من أهم الروائيين التونسيين الجدد الذين غيّروا في مسيرة السرد الروائي التونسي المعاصر بعد حلقة خلفاء المؤسسين المسعدي وخريف وقد جاء عبد الجبار العش إلي الرواية من الشعر الذي حقق فيه نجاحات كبيرة وما زال الطلبة يرددون قصائده الحارقة إلي اليوم.

وقد حققت روايته البكر وقائع المدينة الغريبة نجاحا منقطع النظير سنة صدورها عند المتلقي العربي قارئا وناقدا وتوّجت بجائزة الكومار الذهبي كأحسن رواية تونسية لسنة2001، والحق أن هذه القفزة الرشيقة من الشعر إلي الرواية ليست غريبة عن أستاذ يدرّس التربية البدنية.ويتواصل عطاء هذا الروائي التونسي بنفس التوهج ونفس الجدية فيخرج علينا هذا العام بتجربة روائية فريدة في تونس أطلق عليها من الأسماء محاكمة كلب وقد احتضنتها دار الجنوب في أهم سلسلة روائية تونسية وأشهر السلاسل العربية التي أطلقها ويديرها منذ سنوات الناقد التونسي الشهير توفيق بكار .

ثم انتقل بعد ذلك إلي تقصّي الحركة السردية الأولي التي وسمها بالتخييل العمودي في رواية الوقائع... فقال:

تكشف الرواية الأولي أننا سنكون إزاء ما يمكن أن نسمّيه بـ التخييل العمودي ، أي التخييل الذي يحفر في عمق المكان ليفجّر الأزمات والأحداث والمشاعر، بينما تكشف بداية الرواية الثانية ان التخييل سيتّخذ صبغة أفقية من خلال الراوي الرحّالة، ومن ثمّ سيتنوّع الفضاء الروائي مع كل حركة من الرّاوي المجنون بالتّيه.

ولأن العتبات علي أهمّيتها لا يمكن أن تعفينا من قراءة المتن وجب البحث في دلالة هذه الجغرافيا السردية وأشكال اشتغالها داخل المتن لأنّ النصّ، كما يقول جرار جنيت، دون مصاحب نصّي يبدو أحيانا كالفيل دون أنياب وإنّ المصاحب النصّي من غير نصّ مثل الأنياب بلا فيل .

ت

جري أحداث رواية وقائع المدينة الغريبة داخل المقهي وعلي عتباته، بينما تبقي المدينة إطارا جامعا، فالحدث الرئيسي المتمثّل في عجز أحد روّاد المقهي عن رفع مؤخّرته عن الكرسي والذي بدوره نبت في الأرض، جعل مدار الرواية علي هذا المكان، فمن المقهي تنطلق الأحداث وإليها تعود.

أمّا في القسم الثاني من المداخلة فقد ركّز بحثه حول رواية افريقستان عبر رصد ما أسماه بالحركة الأفقية للسرد أو التخييل الأفقي يقول في غضون المداخلة: يمثّل الطابور جديد عبد الجبار العش في هذه الرواية فقد أمكن له أن ينتبه إلي هذا الفضاء الذي نعيش داخله وبه وعلي حافته وقريبا منه مرغمين وحوله إلي كائن حي فكان الفضاء الإشكالي أو هو فضاء النجاة وفضاء الخلاص،و فضاء الحاجة والأمل.

وقد حافظ العش علي هذه الحزمة من الدلالة والمعاني للطابور في روايته لكنه حوّله من فضاء للأفراد إلي فضاء للجماعات،الشعوب الإفريقية برمتها. وحمّل هذا الحيّز كل المتناقضات الممكنة فهو وإن كان فضاء النجاة وسبيل الخلاص من واقع أفريقيا المؤلم لأنه في المقابل يمثل الفضاء الأكثر بشاعة،إذ هو فضاء القمع وانتظار المستحيل وفضاء الانصياع وفضاء الإذلال والتنازل الوقتي أو النهائي عن الكرامة وعن الحق وعن العدالة والمساواة.إنه الفضاء النموذجي للاستلاب والاغتراب والمداورة السياسية ومشاهدة ضروب الفساد.

لقد حمله العش دلالة أعمق عندما حشر القارة بأسرها فيه وخصّ القسم الثالث من المداخلة ببحث حول رواية العشّ محاكمة كلب التي عرفت نجاحا كبيرا هذه السنة وقد وسم هذا القسم من المداخلة بالحركة الالتفافية للسرد في محاكمة كلب بدأه بوقفة نظرية حول جنس أدبي حديث هو التخييل الذاتي وعاد بنا إلي مؤلفات سارج دوبروفسكي وقصّة ظهور مصطلح التخييل الذاتي ومشاكله حيث اعتبره مصطلحا جديدا يسعي النقّاد للاعتراف به كعلامة أجناسية دالة علي جنس أدبي جديد يقع بين الكتابة الروائية التخييلية والكتابة السير ـ ذاتية وقد قال الباحث أنّ هذه المنطقة من الكتابة ما زالت بكرا في المشهد السردي التونسي افتتحها عبد الجبّار العشّ في نصّه الجديد. فالسرد في محاكمة كلب يأخذ طابعا التفافيا حول صاحبه بمعني أنّ الكاتب في سرده للأحداث ينطلق من تجربته الحياتية الخاصة وإليها يعود.

وقد كشف المحاضر أنّ هناك تطابقاً بين شخصية الراوي وشخصية الكاتب حيث انعطف عبد الجبّار العشّ علي سيرته المؤلمة يكشفها في جرأة عجيبة ليكشف للقارئ أنّه ابن بالتبني وقد توسّل في ذلك بتقنية كتابة جديدة هي التخييل الذاتي واختار السرد الالتفافي أسلوب كتابة ليرفع نصّا أدبيا جريئا وصادما لم تتعود به الساحة الإبداعية التونسية وشبّه جرأته بجرأة محمد شكري وجان جينيه وهنري ميلر وتنيسي وليامز واعتبر أنّ اختيار المحكمة فضاء تجري فيه أحداث الرواية كان اختيارا محكما بصفته الفضاء النموذجي للاعتراف.

وقد دعا في آخر محاضرته المشوقة إلي مزيد الاهتمام بهذه التجربة الروائية الرائدة في تونس. وإجابة عن سؤال أسباب اختياره لمدونة تونسية لبحثه أكّد الباحث أنّه ليس من دعاة تونسة النقد إنما كانت دوافعه فنية بحتة فهو يلاحق النصوص الروائية الجيدة إن كانت تونسية أو غير تونسية وهو ما تكشفه بحوثه الأخري التي تناولت أعمالا روائية مغاربية وعربية وقال أنّه أتي إلي هذا المكان بصفته ناقدا عربيا لا ناقدا تونسيا.

وقد تدخل في النقاش الجريء والثري عدد من الكتاب التونسيين والعرب ممّن كانوا يتابعون المداخلة. وقد أثني الدكتور مصطفي المديني علي جدّية المحاضرة التي اعتبرها غاية في التماسك وهمس في كواليس المحاضرة أنّها ثلاثة بحوث في بحث واحد. كما حدّثنا القاص والباحث العماني محمد الشحري فقال معقبا علي المحاضرة

في هذه المحاضرة القيمة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معني نجد أنفسنا، أمام ناقد ينتمي إلي سماء النقد والروائية معا، وهذا ما يخول لناقد وروائي ذرع العالم العربي من المغرب إلي عُمان مثل كمال الرياحي أن يكون علما في الساحة النقدية العربية، وذلك لطريقة نقده الفنية، واستخدامه لأدوات جديدة في تشريح النص الأدبي، حيث طرح ثلاثة أصناف رياضية للتخيل في روايات الروائي التونسي عبد الجبار العش.

فقد استخدم التخيل العمودي في رواية العش (وقائع المدينة الغريبة)، والتخيل الأفقي في رواية (أفريقيستان)،والتخيل الالتفافي في رواية (محاكمة كلب). يصف كمال الرياحي، الروائي عبد الجبار العش بأنه من أهم الروائيين التونسيين الجدد في الجيل الثالث من أجيال الروائيين التونسيين، هذه الشهادة التي منحها الرياحي لأعمال العش، لم تأت من صداقة تربطه بالكاتب ولا لأي اعتبارات أخري كما قال لنا الرياحي بعد ذلك وإنما نتيجة لقراءة روايات العش الذي دخل إلي عالم الرواية من بوابة الشعر، وليست جائزة كومار التي فاز بها عن روايته (وقائع المدينة الغريبة) إلا دليلا مؤكدا علي إبداع العش الذي حوّل الهامشي إلي مركزي في روايته واتخاذه مكانا كالمقهي عتبة ندلف منها إلي وقائع المدينة الغريبة، والمتتبع للمداخلة يدرك أن الرياحي يمتلك لغة النقد ومن يعرف اللغة يمتلك المعارف كلها، حيث غاص الرياحي بنصوص العش في بحار نقدية أخري.

من مقارنته لمقهي العش بمدينة وهران في رواية الطاعون لالبير كامو،إلي أدب وغرابة عبد الفتاح كليتو، وأيضا مقارنته بين رواية العش (افريقيستان) وبين روايات مثل آخر الرعية (عربانيا) لأبي بكر العيادي الصادرة بفرنسا من حيث العناوين، لكأن الناقد يتحدث لمستمعين يسكنون فيه ويساكنهم.

هذا الأسلوب الذي ينفرد به كمال الرياحي في تحكيم النصوص لقراءة نقدية حية يوحي لنا بأن عبقرية الناقد تصدر عن إتقانه لأدوات نقدية عبقرية، حيث يعيد خلق نص إبداعي آخر من نصوص أخري، هذا التفرد يعطي صاحبه امتيازا عن الآخرين، ويزداد الامتياز حينما يدور الناقد في فلك من الخلق والحقيقة والعبقرية.

إن روايات العش التي تحدث عنها الرياحي روايات تحرّض علي المتخيل وتهدم الواقع، وتجعل المتلقي يفكر في عوالم العش المتخيلة أو المنشودة.

في نهاية المداخلة نتساءل هل من الممكن أن نري إنتاجا أدبيا يصاحبه نقد جاد، يعفينا من غث كتابي وليس أدبياً ملأ الساحات ولوث الأجواء وسمم النفوس،حيث تسلط الأضواء علي أعمال لا ترقي أن تكون أدبا ويُهمش علي حسابها أدبا حقيقيا جادا يلامس هموم الإنسان ويقرأ مصيره .

وحدّثتنا الشاعرة والقاصّة ابتسام الخميري قائلة: المحاضرة قيّمة ذات دلالات متعدّدة. فالاهتمام الموضوعي بروايات العشّ بدا واضحا. وهذه المحاضرة هي دراسة معمّقة ذات أسلوب خاص. وهذا ليس بالغريب عن الناقد كمال الرياحي .

أمّا الشاعر التونسي خالد الدرويش فقال: تناول الناقد كمال الرياحي أعمال الروائي عبد الجبّار العشّ بموضوعية متقصّي دواخل كتابة العشّ السردية مسلطا الضوء علي الفضاء/المكان كزاوية نظر في روايات العشّ .

بقي أن أقول إن الفضاء الذي استضاف المحاضرة قد نجح في رهانه علي صوت نقدي تونسي جديد عرف بجديته في المشهد النقدي العربي وأثني علي جهوده النقدية كبار النقاد العرب من د. سعيد يقطين إلي د. صبري حافظ مرورا بالأردني د. محمد عبيد الله وقد سبقهم إلي ذلك د. فوزي الزمرلي ود. محمد القاضي ود. صلاح الدين بوجاه... وكم نحن في حاجة إلي تنشيط المشهد الثقافي التونسي بمثل هذه الأمسيات والتظاهرات النقدية لتسليط الضوء علي ما تجود به دور النشر والمطابع من أعمال روائية متميزة تستحق العناية وتنتظر عيونا نقدية مختلفة تستنطق صواتمها وتكشف المسكوت عنه في نسيجها بعيدا عن الاخوانيات التي ملّها المتلقي التونسي.