في مجموعة سهيل كيوان القصصية «مصرع حاتم طي»: السخرية وسيلة لتقصي المرارة الاجتماعية
القدس العربي فياض هيبي
يعود الكاتب سهيل كيوان مع مجموعته القصصية الجديدة «مصرع حاتم طيّ» ليدخل عالم الأدب الساخر من أوسع أبوابه، ويرسّخ قدمين اثنتين لا واحدة في الكتابة الساخرة، وبذلك يحقق حضورا في المشهد السردي ـ القصصي المحلي، يخوّله أن يتجاوز هذا المحلي نحو نطاق أوسع بجدارة. نقول هذا الكلام مبكراً، والذي يبدو أقرب إلى التلخيص والإجمال منه إلى التقديم والاستهلال، لأنّ النصّ الأدبي الجيد الذي يورّط القارئ ويشدّه بكلّ ما أوتي من قوة، لم يعد مفهوماً ضمناً في ظلّ تراكم النصوص وحركة النشر التي تبدو كمية، رغم محدوديتها، أكثر منها كيفيّة ونوعيّة. تأتي هذه المجموعة الثالثة في الترتيب منذ العام 2005 حين صدرت مجموعته «تحت سطح الحبر» وبين الأولى والثالثة صدرت « مديح لخازوق آخر» عام 2013. نؤكّد من خلال هذا العرض الكمّي ـ الزمني لإنتاج الكاتب في السنوات الأخيرة، على التنوّع والاختلاف في المواضيع والأساليب، رغم المجال الواحد الذي تنتمي إليه معظم النصوص في المجموعات السابقة، وهو المجال الساخر. وهنا بالضبط تكمن أهمية أدب كيوان وقيمته، وهكذا بالضبط تكون النصوص قادرة على الاستفزاز الذي يتعدّى نشاط القراءة.
عن الكتابة والالتزام
يقول جان بول سارتر إنّ كلّ كاتب منتمٍ بالضرورة. وهو بذلك متورّط في حاضره وبيئته ومجتمعه رغما عنه لا بإرادته، وغير معزول، بالتالي، عن هذا المجتمع بأي حال من الأحوال. يعاين هذا الواقع ويرصده بأدق تفاصيله، في أسلوب يتعدى التوثيق والتسجيل. ونصوص سهيل كيوان في هذه المجموعة، كأي نصّ أدبي آخر مفترض، لا تحيد عن هذه اللازمة. ولكن التزام كيوان في هذه المجموعة جاء مطعّماً بروح فكاهية ساخرة إلى أبعد حدّ، وهو ما يعطيها زخما أكبر. الكاتب بهذا المفهوم يحقق «اللازمة» السابقة كاملة غير منقوصة. ويبرهن بما لا يقبل الشكّ أنّ الكاتب «الجيد» هو ذاك المتابع والمتورّط في قضايا شعبه وهمومه، لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا ويرصدها ويعاينها، من باب المسؤولية وصدق الانتماء. وقد فاجأني كيوان حقيقة برصده ومعاينته لهذه الهموم اليومية المهولة الوافدة علينا جميعاً دون استثناء، ومردُّ المفاجأة إلى التحوّل السياسي الرهيب الحاصل على المستوى العربي، منذ بداية ما يعرف «بالربيع العربي» وما حمله معه هذا «الربيع» من تغيرات وتحوّلات عسيرة على الفهم والهضم في معظمها. وهكذا ظننت أن تكون حصة الأسد من الأفكار والنصوص، في هذه المجموعة، للسياسة والخيبات السياسية العربية المتلاحقة. لكن كيوان عاين مواضيع وأفكارا تؤرق بال المواطن العربي في فلسطين يومياً، وتهدّد أمنه واستقراره بدون هوادة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، عودة ظاهرة الإيمان بالخرافات (المشايخ)، العنف وحيازة السلاح، وسائل التواصل الاجتماعي، هدم البيوت، العلاقات الاجتماعية المشوّهة وصلة الرحم المقطوعة، الجنس، التراث وغيرها الكثير. رغم سيطرة هذه المواضيع والأفكار على المجموعة، إلا أن ّ الكاتب يشير في بعض النصوص إلى الحالة السياسية المحلية والعربية في إشارات سريعة لا تحتلّ حيّزا يجعلها تنافس العناوين السابقة حضورا. ولم يكن هذا التغييب أو شبه التغييب، إن صحّ التعبير، للحالة السياسية وهي في أوج تحوّلاتها المصيرية، اعتباطياً غير مقصود من قبل الكاتب بأيّ حال من الأحوال. فهو بذلك يصرّح أنّ هذا الالتفات اتهام للحالة السياسية في المقام الأول. اتهام بعبثية الحالة السياسية وتشوّهها وإمعانها في الظلم والتدمير، ومناصرة الظالم، وتكريس الظلم على المسحوق والمظلوم، فيكون التحوّل لغيرها تصريحاً برفضها ومعارضتها، وهو اتهام كذلك لأنّ معاينة هذه «اليوميات» بأدق تفاصيلها وتجاوزاتها، على نحو ما نرى في نصوص هذه المجموعة، دليل على أنّها (اليوميات) نتيجة لسبب، فما كان حال المجتمع ليشهد هذه الحالة من التردي والتراجع، لولا الممارسة السياسية الغرائبية والمنحازة دوماً. وهكذا يكون الكاتب قد ألزم نفسه بشروط المعادلة السابقة كاملة وعلى المستويين المباشر وغير المباشر.
يحرص سهيل كيوان على توثيق التراث. يستعرض بعضاً من مكوّناته ليعارضها حيناً وليؤكّد على أهميتها وضرورة حمايتها حينا آخر. هي عملية «غربلة» يراها الكاتب ضرورية لهذا الموروث، في سبيل صلاح أمرنا وصلاح مجتمعنا، مثل عادة عيادة المريض وأكوام الحلويات التي تتكدّس عنده! في قصة «لا رحمة لملائكة الرحمة».
ما يؤكّد عليه الكاتب ويسعى إلى توثيقه لأهميته ودوره في الحكاية والوجود الفلسطينيين، هو كلّ ما يتعلق بعالم الطبيعة والأزهار والنباتات، كما يفصلها الكاتب في قصة «تينات القنيطرة». إضافة إلى تأكيد بعض من المصطلحات الزراعية ـ الفلاحية التي يتهدّدها الانقراض والزوال، كالتيّانة والمُسطاح، الواردة في القصة السابقة. كما يذكر بعض الأدوات التراثية التي يفتخر بها كلّ فلسطيني وفلاح في بلادنا، كطقم القهوة السّادة النحاسيّ، الذي انحصر حضوره في مناسبات وجغرافيا محدودة تماماً، كما هو الحال في قصة «قهوة مُرّة .. جدا مُرّة».
يساهم كيوان في هذا الجانب بمشروع حماية التراث والموروث الشعبي من الانقراض والزوال، «المشروع» الذي بدأه الجيل الأول من كتاب أدب الأقلية الفلسطينية في بلادنا، كإميل حبيبي، محمّد علي طه ومحمّد نفّاع.
اللغة عندما تكون ساخرة
لا شكّ أنّ السخرية عند سهيل كيوان واعية ومرنة وقادرة على استيعاب جملة من التقنيات الأدبية التي تقوم عليها السخرية (كالمفارقة والجروتيسك والنكتة والمبالغة، وغيرها الكثير، وهو ما جئنا على ذكره أكثر في مناقشة لظاهرة السخرية في الأدب، كما تبيّن هذه النصوص أنّ المقدرة على السخرية عند الكاتب نفسه تشهد حالة من التطوّر من مجموعة إلى أخرى، وهكذا تكون الكتابة الساخرة عند سهيل كيوان في مسارها الصحيح. يعتمد الكاتب في هذه المجموعة جملة من التقنيات التي تجعل من اللغة مرنة ساخرة إلى أبعد حدّ. ومنها، اللغة المحكية وتفصيحها، والمفارقة، ولا يهمل الكاتب قدرة العناوين النصّية والدلالية، فيطعّم اللغة في بعضها بسياق محكيّ لتضاعف من ممارستها الإغوائية على القارئ وتورّطه حتى النخاع، فاللغة في محكيتها أكثر صدقاً وعمقاً وقرباً من الواقع والقارئ على حدّ سواء. ولا انتقاص من قيمة النصّ واللغة الأدبية، عند استبدال بعض السياقات بكلام محكيّ. بل يغدو هذا «الاستبدال» مهضوماً مستساغاً لأنّه يخاطب مشاعر القارئ مباشرة. واللغة في «طبيعتها» ومحكيتها عفوية مباشرة، تؤدي المعنى دفعة واحدة، وتكون مفعمة بمستواها النفسي الصادق الذي يضاعف من دلالتها وقيمتها. عنوان النصّ الأول في المجموعة « يا ريتني ظليت مربوط» خير مثال على ما تقدّم. العنوان لغته محكية خالصة، قراءة العنوان بهذه المستوى المحكي مشفوعاً بصيغة التمني فيه تخاطب المعنى تماماً، تلفظ العنوان بطريقة تستشعر من خلالها ألم الشخصية ووجعها، وهو ما يصعب أن يتحقق في المستوى الفصيح من اللغة، خاصة عندما يخالف التمني المتوقع والمألوف، ليحقّق بذلك مفارقة واضحة، تساهم مساهمة جادة في تعزيز الجانب الساخر عموماً. التمني والطلب يخوضان في الإيجاب أكثر من السلب، فعندما يتمنى الراوي أن يبقى مربوطاً، فهو ما لا يستقيم مع المنطق البشري السويّ، يكون التمني عادة في الناقص والغائب والمأمول، والذي يفترض أنّه نافع ومجدٍ لتعويض هذا النقص، ولا يكون في السلبي الذي «يورّط» الفرد أكثر مما يساعد في خلاصه. ولما كان العنوان مفارقا إلى هذا الحدّ ومحكيا إلى حدّ الضحك، كانت العدوى أكبر، وكان الاستفزاز مفروغا منه.
تفصيح العامية
لعلّ من أبرز مقومات اللغة الساخرة وأكثرها شيوعا في الأدب الفلسطيني الساخر بصفة خاصة، هي ظاهرة تفصيح اللغة المحكية. وكأنّ اللهجة الفلسطينية في تنوّعها وغزارتها، تكتسب دلالة خاصة وبعداً أعمق عندما تلزم بقواعد الفصحى وضوابطها. وكأن القائل يحاول أن يقحم المفردة المحكية في الفصحى، مع إصرار المفردة على محكيتها بالمقابل.
٭ كاتب فلسطيني ومحاضر في كلية القاسمي