عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Jul-2025

الإيمان المسؤول في زمن الذكاء الاصطناعي والأزمات المعاصرة*ا. د. هاني الضمور

 الغد

في عصرنا الراهن، حيث تتسارع الخطى نحو الابتكار التكنولوجي، وتتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية على مستوى عالمي، يبرز سؤال جوهري: ما الذي يمنح التقدم معناه الحقيقي؟ وهل يكفي أن نُنتج ونبتكر ونتقدم، أم أن هناك معيارًا آخر يجب أن يحكم هذا المسار؟
 
في الواقع، لا قيمة لأي حضارة إذا انفصلت عن القيم، ولا وزن لأي إنجاز علمي إذا أدى إلى الإضرار بالإنسان أو البيئة أو استُخدم بغير مسؤولية. من هنا تبرز أهمية ما يمكن تسميته بـ”الإيمان المسؤول” — إيمان لا يقتصر على العبادة والطقوس، بل يتجلى في طريقة تفكير الإنسان، وفي اختياراته، وفي رؤيته للكون والحياة.
 
لقد جعلت الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلوم الحديثة الإنسان قادرًا على إنتاج أدوات لم تكن تُتصوَّر من قبل. اليوم، يمكننا تعديل الجينات، والتحكم في البيانات الشخصية، واستخدام الخوارزميات للتأثير على قرارات البشر، وحتى تطوير آلات تتعلّم وتتصرف بشكل شبه مستقل. ورغم الإعجاب المشروع بهذه الإنجازات، إلا أن كثيرًا منها يُستخدم بطريقة تؤدي إلى الانقسام الاجتماعي، واستنزاف الموارد، وانتهاك الخصوصية، بل وحتى تهديد الأمن النفسي والمعنوي للإنسان.
هنا، يجب أن يتدخّل الإيمان — لا كقيد على التقدّم، بل كمعيار أخلاقي يضبطه. فالمؤمن الحقيقي ليس فقط من يصلي ويصوم، بل من ينظر إلى ما يُنتجه أو يُروّجه أو يصممه بعينٍ واعية: هل فيه نفع حقيقي؟ هل يُحتمل أن يُسيء للناس؟ وهل تم اتخاذ التدابير لتجنّب أضراره؟ هذا هو المعنى العميق للإصلاح الذي دعا إليه الدين، حين قال الله تعالى: “فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [الأنعام: 48].
هذا الربط بين الإيمان والإصلاح لم يأتِ عبثًا، بل هو تحصين ضد الانفصال بين النية والعمل. فكثير من الذين يسعون في الأرض، يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، بينما هم يُنتجون ما يُفسد، أو ينشرون ما يُدمّر، كما قال الله تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا” [الكهف: 103-104]. وكم من مشروع أُطلق تحت شعار التقدّم، فكان أثره هو الفقر أو التلوث أو العزلة أو الفوضى!
خذ على سبيل المثال أزمة تغيّر المناخ. هذه الأزمة لم تنشأ من جهل علمي، بل من غياب البُعد الأخلاقي في القرارات الصناعية والاقتصادية لعقود طويلة. وكذلك الحال مع الذكاء الاصطناعي الذي يُستخدم أحيانًا في المراقبة، وتوجيه الرأي العام، أو حتى في تصميم أسلحة فتّاكة بلا رقابة بشرية. فهل من المنطقي أن نستمر في هذا المسار دون مراجعة القيم التي تحكمه؟
إن الحضارة، في جوهرها، ليست آلات ومصانع ومباني شاهقة، بل قيمٌ تَسند هذه المخرجات وتُوجّهها. فالحضارة التي لا تراعي الإنسان ولا تحمي البيئة ولا تُراعي العدالة، لا تستحق اسم الحضارة مهما بلغ تقدمها العلمي.
الإيمان المسؤول يُعيد ضبط البوصلة. إنه يُذكّرنا بأن كل علم يجب أن يكون في خدمة الخير العام، لا مجرد خدمة الأرباح. وأن كل اختراع يجب أن يُرافقه سؤال أخلاقي: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ وكيف يمكن تقليل الأضرار؟ وهل نحن نبني أم نهدم؟
ختامًا، نحن لا نُعارض التقدّم، بل نُطالب بأن يكون تقدّمًا إنسانيًا. لا نرفض الذكاء الصناعي، بل نريد له أن يُوظف في الخير. لا نحذر من العلم، بل من غياب الضمير عند استخدامه. فالإيمان ليس نقيض الحداثة، بل ضميرها الحيّ. والمسؤولية الكبرى على الجيل الحاضر أن يُثبت أن بوسعه أن يوازن بين العقل والإيمان، بين القوة والرحمة، بين الإنجاز والحكمة.
فلنؤمن، ولنُصلح، ولنُدرك أن مسؤوليتنا لا تقف عند حدود الذات، بل تشمل أثرنا في هذا العالم — اليوم، وغدًا، ولمن سيأتي بعدنا.