عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Feb-2025

درس في السياسة*يعقوب ناصر الدين

 الغد

سبق لي أن كتبت مراراً عن عمليات التفكير والتخطيط والإدارة الإستراتيجية من زاوية الحاجة والقدرة على وضع خطة مناسبة لتحقيق أهداف من شأنها المحافظة على المكتسبات وترسيخ قواعد القوة ومعالجة نقاط الضعف، وتحويل التحديات والمخاطر إلى فرص، وكتبت أيضاً في هذا السياق عن القائد الإستراتيجي الذي يتعامل مع الواقع بحكمة وموضوعية وبإمكانه أن يرى التطورات والنتائج قبل وقوعها، من دون أن يتأثر بردود الأفعال المحيطة به على اختلاف أنواعها ومستوياتها، وخلصت في كل مرة إلى أن جلالة الملك عبدالله الثاني صاحب عقل إستراتيجي بكل المعايير.
 
 
لا يمكن لمن لا يعرف تلك الحقيقة عن الملك أن يفهم كيف أدار جلالته اللقاء مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يتفق الجميع على أنه شخص غير عادي، وفي ظروف غير عادية، ولن يكون بإمكانه التمييز بين مما هو حقيقي غير ظاهر، وما هو انطباعي ساذج، وذلك يفسر فشل معظم التحليلات البريئة وغير البريئة في تحليل ما جرى خلال عملية الاستقبال في البيت الأبيض وبحضور عدد كبير من ممثلي وسائل الإعلام، الأمر الذي لم يكن متفقاً عليه من قبل، فذهبت تلك التحليلات إلى الزوايا والخلفيات وليس إلى الجوهر، متأثرة بما تعرفه عن ترامب كشخص يفتقد إلى اللباقة، وما لم تأخذه في الاعتبار عن جلالة الملك كزعيم تحكم تصرفاته منظومة من صفات الأصالة والكياسة والنبل، فتاه كثيرون منهم في سوء التقدير وظلمة النوايا والقلوب المريضة!
كان درساً سياسياً فريداً من نوعه لا يمكن أن يتعلمه - وربما أجدر ألا يتعلمه - أولئك الذين رغم اختلاف أشكالهم وأجنداتهم وأماكن إقامتهم يجمع بينهم شيء واحد هو عالم سفلي بذيء ينتمون إليه ولا يستطيعون الخروج منه لأنه مدفوع الأجر من قبل قوى شريرة لم يعد يهمها إخفاء نواياها وأفعالها، بل على العكس من ذلك فتلك هي أهدافها ومهمتها التي تعمل من أجلها.
ماذا جرى في ذلك اللقاء؟ ومن أجل الإجابة الدقيقة على سؤال بديهي من هذا النوع لا بد من الذهاب مرة إلى المعنى وأخرى إلى النتيجة، وقد فعلت ذلك أرقى الصحف الأميركية وأكثرها مهنية من خلال عناوينها العريضة (ملك الأردن يرفض مقترحات ترامب بشأن تهجير سكان غزة) وبصيغ مختلفة تصب كلها في المعنى ذاته، وكذلك فعلت المتحدثة باسم البيت الأبيض الأميركي، وقيادات ذات شأن في الكونغرس، وإدارة الرئيس ترامب الذي ألقى بياناً مباشراً يشيد فيه بجلالة الملك وبالشعب الأردني، وقد قيل الكثير عن الأسباب التي جعلته يصدر هذا البيان الاستثنائي. 
الذين فهموا الدرس السياسي أدركوا أن جلالة الملك أمسك بزمام المبادرة فقلب المعادلة على هذا النحو، إذا كان الأمر يتعلق بتهجير مواطني قطاع غزة من أجل إعادة إعماره، فإن لدى مصر خطة يمكن تنفيذها بوجود الغزيين في وطنهم، وإذا كان الكيان الصهيوني يقف وراء ذلك الهراء فعليه أن يعرف بأن فكرة تهجير الفلسطينيين خارج ديارهم إلى المحيط العربي سيقابلها حتمية العودة إلى مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي بعد أن استقر لفترة طويلة على أنه صراع فلسطيني إسرائيلي، وذلك هو معنى إشارة جلالته للقمة العربية في القاهرة، واللقاء الثلاثي في الرياض.
أما بقية الدرس فهو كذلك على هذا النحو، إذا كانت النية تتجه نحو سلام مفروض بعنجهية القوة وجنون العظمة ولا يشمل الفلسطينيين فإنه لن يشمل الإسرائيليين أبدا مهما كان حجم أو أمد حرب الإبادة والتطهير العرقي طويلا، وقد حان الوقت لكي يقر الجميع بمبدأ الحل الذي يمنح الفلسطينيين حقهم المشروع والمكفول باستقلالهم الوطني، وأن ما دون ذلك ليس سوى كلام فارغ ومضيعة للوقت.