كان الكاتب الراحل سعيد الكفراوي (1939 ــ 2020) على تواصل دائم وحضور لافت في المشهد الثقافي المصري والعربي، حتى أصبح وجوده سمة من سمات هذا المشهد، سواء في المنتديات أو الندوات والمقاهي الثقافية. ومن خلال العديد من الصداقات الممتدة مع الكثير من المثقفين، يقـدم هنا بعضـهم شــهادته عن الرجل. وقد تكون هذه الشهادة نابعة من صداقة أو موقف شخصي، أو من خلال ما كتبه من نصوص قصصية، أو قد تنصب أكثر على عالم الرجل القصصي، لتجتمع هذه الشهادات مكوّنة صورة واضحة وأكثر قرباً من الكاتب.

 

الشاعر جرجس شكري

 

ينتمي سعيد الكفراوي إلى جيل الستينيات، الجيل الأكثر شهرة والأوفر حظاً في الأدب المصري، خاصة الرواية، وقد اختار طريقاً مغايراً لأبناء جيله الذين كتبوا الرواية وآمنوا بها واعتبروا القصة القصيرة استراحة بين روايتين، يتخلص فيها الكاتب من بعض الأفكار أو الشخصيات العابرة في قصة قصيرة، أو قل عملية إحماء قبل النزول إلى أرض رواية جديدة، وانحرف سعيد الكفراوي عن كل هؤلاء، وآمن بالقصة القصيرة وحدها، واعتبرها المتن لا الهامش كأبناء جيله، ومنذ أن عرفته في تسعينيات القرن الماضي وهو ينحاز إلى هذا الاختيار إلى الهامش. لقد قاوم كل إغراءات الرواية، وأقصد المكاسب السريعة من جوائز وسينما ودراما تلفزيونية، وهو ما حصل عليه أبناء جيله من الروائيين والأجيال التالية، ولكنه ظل مخلصاً لفن القصة القصيرة، كراهب أسلم جسده وروحه للسماء، رغم أنه مازال يعيش على الأرض. منذ أن التقيته في بدايات التسعينيات في قاهرة ذلك الزمان، التي كنا لا نستطيع أن نغيب فيه عن وسط البلد معقل الحياة الثقافية يومين متتاليين! كان سعيد الكفراوي الذي لم يكتب الرواية كما كنت اسميه اعجاباً وتقديراً لشجاعته وإصراره على كتابة القصة القصيرة، كنت أراه يتجول في الشتاء بين المنتديات الثقافية والساهرين من الأدباء بمعطفه الأنيق مبتسماً للجميع، فهو يعرف جيداً كيف يعبر عن محبته، فإذا جلست إلى جواره مرة سوف تخرج بمجموعة من الحكايات المدهشة. رحل (عم سعيد) اللقب الذي منحته له الحياة الثقافية، تاركا لنا وللأجيال القادمة ليس فقط القصص القصيرة في مجموعاته، بل رواية طويلة نرويها في ما بيننا، رواية أحداثها وشخصياتها في المقاهي والشوارع وفي الذاكرة.

 

الروائي العراقي عائد خصباك

 

كنا نجلس في الصالة قبل منتصف النهار، وقد قررنا أن نذهب إلى معرض الكتاب، وهناك نجد لنا حاجة نأكلها. لكن فجأة فتح الدكتور حوريس الباب علينا بمفتاحه ــ حوريس هو الابن الأكبر لسعيد الكفراوي ـ كان يحمل معه كيسا من البلاستك الشفاف، فيه سمكة. ألقى التحية وتوجه مباشرة إلى المطبخ، فتبعته فوراً ومن بعدي سعيد، فوجدت السمكة مطروحة على دكة هناك وكانت كبيرة بالفعل، قال حوريس: هي أمامكم تصرفوا معها بما تشتهون، وأنا مع السلامة. وقفنا نتأمل السمكة من رأسها لذيلها، قال سعيد: أفضل حاجة لمثل هذه السمكة هي الشواء، أنا أعرف فرنا قريبا من هنا، وصاحب الفرن رجل معرفه ويفهم في مثل هذه الأمر، هو يتولى أمرها، وأسرع لتغيير ملابسه ليخرج، ومن غرفته سمعته يقول: عليك بالسلطة، ولا تنسى تحضير البصل الأخضر. أخذ السمكة وعند الباب قبل أن يغلقه خلفه، خُيّل لي أن رأيتها تحرك زعانفها وتضرب بذيلها، ربما مستنجدة بي أن لا أدعها تذهب الى الفرن. طال غياب سعيد، وأنا خلال ذلك انتهيت من عمل السلطة، وقد وضعت اللمسات الأخيرة فوقها، عصير الليمون الحامض وقليل من حبات الزيتون نثرتها هنا وهناك، عملت شرائح البصل بنوعيه، وضعت كل شيء في مكانه على المائدة.

وصل سعيد أخيرا ومعه السمكة، كان يحملها كما لو كان يشيعها إلى مثواها الأخير على المائدة، كان حزينا بحق. اندهشت لمنظر السمكة ولم أكن أتوقع ذلك.. رأسها مسودّ، والذيل أكثر اسودادا، أو في الحقيقة لم يكن هناك ذيل، مجرد حاجة متفحمة، جاءت في نهاية ما كان يحوّط حواشيها من سواد، أما وسطها فما كان بأقل قسوة وصلابة من عمودها الفقري.

قلت: ما هذا الذي أراه يا سعيد؟

قال: انشغل صاحب الفرن عنها بمكالمة هاتفية، ويبدو أن الشخص على الطرف الآخر مهم جدا بالنسبة له، فقد نسي معه الدنيا وما فيها، وطبعا سمكتنا كانت ضمن «ما فيها». في معرض الكتاب أكلنا «الكشري». والصورة تختصر ذلك كله.

 

 

 

القاص والروائي رضا البهات

 

الكفراوي أديب آمن بالقصة القصيرة، وراهن على قدرتها على تغيير العالم، لكنه اصطدم بالواقع.. بالحقيقة. كانت لي معه أيام، ومع العزيز دائما محمد عفيفي مطر، فلم أكن أشاهدهما إلا معا. ثم إنه ـ الله يرحمه ـ كان رئيس اللجنة التي منحتني ثقتها وجائزتها ـ أقصد جايزة ساويرس في 2016 عن الرواية ـ من يومها لم أقابله. فقط قبل الجائزة بأيام، حتى فوجئت بأنه رئيس اللجنة، ثم انشغل بعدها بمسألة السرطان. كتب الكفراوي عن المهمشين وعن الحثالة، واعتمد على الذاكرة في ما كان يكتب، لدرجة أن الحكي كان أهم عنده من التسجيل، ولذا كان حكاء بارعا، لدرجة أني أعتبره .. صوفي القصة القصيرة.

 

الكاتب والروائي مصطفى نصر

 

خرجت معاش مبكر في الشركة التي كنت أعمل فيها في يونيو/حزيران سنة 2000. وتصدعت ميزانية بيتي، كنت في أواخر شهر رمضان، واتصل بي صديق قائلاً لي سعيد الكفراوي بيقولك تعال خد فلوسك. فسألت صديقي فلوس إيه دي؟ قال: ما تعرفش أن ليك قصة في مجلة «العربي الصغير»، لم أكن أعرف بذلك، اتصلت بصديقي رجب سعد السيد – كان له باب شهري في مجلة «العربي» بعنوان الإنسان والبيئة – طلبت منه أن يحضر لي مكافأتي عن قصتي المنشورة في مجلة «العربي الصغير»، وبالفعل تقابلت أنا وهو في قهوة الكريستال وأعطاني المكافأة، وكانت كبيرة، وقد جاءت في وقتها، فقد اشتريت أشياء كثيرة لوازم البيت، واتصلت بسعيد الكفراوي الذي كان مسؤولاً عن مجلة «العربي الصغير» في مصر، لأشكره، فقال بتشكرني على إيه، ده أنا كل إللي يكلمني اقوله تصوروا نشروا قصة لمصطفى نصر، كنت قد أرسلتها لهم منذ ثلاث سنوات، ثم قال لي عايز تنشر أكثر في مجلة «العربي الصغير»، قلت: ماذا أفعل؟ قال اكتب سيناريوهات، سألته بتتكتب إزاي، فشرح لي الطريقة، بعد مكالمتي مع سعيد الكفراوي، كلما قرأت شيئا وجدته يصلح لأن يكون سيناريو للأطفال، فكتبت سيناريوهات كثيرة، وفوجئت بهم يهتمون بسيناريوهاتي، ينشرون لي في أعداد المجلة، ونشروا لي – أحيانا – سيناريوهين في عدد واحد، ونشروا لي أول كتاب أطفال بعنوان «أبو قير وأبو صير»، وزعوه هدية مع المجلة. هذه التغيرات نقلتني لحالة كنت في أشد الحالة إليها، غطت لي مصاريف كثيرة جدا، ولولا سعيد الكفراوي ما حدث هذا.

 

الناقدة المصرية إعتدال عثمان

 

سعيد الكفراوي أحد كبار الحكائين في الأدب العربي المعاصر، يتميز بفرادة خاصة في الرؤية، والبناء النصي، والأداء اللغوي على نحو ما يتجلى في مشروعه الإبداعي القصصي الذي افتتحه في منتصف ستينيات القرن الماضي، وأخلص له على امتداد عقود، محتفظاً بصوته الحكائي المتفرد، وبتأمل الذات وعمقها الإنساني، بما لا ينفصل عن أسرار الوجود الكبرى، وانشغال متسع بالأساطير التأسيسية في التراث المصري والعربي، وبروح المكان، وبمفهوم فوات الزمن، والعود الأبدي. ظل سعيد الكفراوي يدافع عن دهشته اللانهائية، فيما هو يتقصى حداثة قصصية قادرة على التكثيف الحكائي للحالة الإنسانية المعيشة، والمتخيلة، والرمزية، والثائرة في الوقت نفسه على مواضعات القص التقليدي، مقابل بناء نصي حداثي يجمع بين الواقعي واللاواقعي، ولا يخلو من غموض ساحر أحيانا، والتباس بالشعر، وبالحضور الصوفي الشفيف في أحيان غالبة. وقد احتل الكفراوي مكانته الأدبية الرفيعة لدى القراء، قبل أن يتوج اسمه بجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2016. ظل الكفراوي مفتونا بفعل الكتابة الذي يستولد الأفكار من الصور، ويخلق الصور من حكايات عابرة، لكنها مقيمة في الذاكرة. فبعد أن عاش حياته الأولى في القرية، مهد الطفولة، أحس أنه يغوص في بحار عميقة من زخم الحياة والموت الثائر في صباح الحكايا مع غبارالريف، والرابض في الأماسي على كيمان السباخ، والساري في كل وقت مع نسائم الغيطان، وسمائها المنفتحة. وبعد أن ارتحل إلى المدينة (القاهرة)، وجال في شوارعها وحواريها، وألِف أحياء وسط البلد وصخبها ومقاهيها، وبعد أن اكتوى بوجع الذكريات الوافدة في هدأة الليل، جالبة الأحباب الموتى كأنهم لم يغادروا الحياة، وبعد أن جرّب لقاءات البشر العابرين وهم يتركون بصماتهم في عمق الروح، بعد أن عاش وجرب هذا كله، قرر أن قضيته هي مساءلة ذلك الوجود الإنساني العابر، وقرر أن يهدي قصصه إلى:

«العابرين/الذين/ يتذكرون مع وردة الصبح/أنهم ليسوا عابرين». هو أول هؤلاء الذين يروي حكاياتهم، فيما يروي حكايته الذاتية، حيث تتداخل الحكايات في متواليات سردية منفصلة بعالمها الخاص في كل نص، ومتصلة كذلك في دورة من دورات الميلاد والموت، فالموت لدى سعيد الكفراوي هو وجه من وجوه الحياة، وليس نهاية لها، وكذلك فإن الحلمي واللاواقعي والسحري تجليات للذات الساردة التي ترى العالم بعين ثالثة – عين الكتابة – فتتيح «رؤية ما لا يُرى».

الذات المتأملة حكمة الحياة لدى الكفراوي ترى أن «الحكي شفاء للروح» فيما تخاطب نفسها والقارئ في الوقت نفسه في نوع من المناجاة الشجية، يقول: «عندما تمتلئ روحك بكل هذا التراث القديم، سوف تنتبه فجأة، إلى أن هذا الجنس من البشر، الذي أطلق عليه اسم المصريين – وعلى الرغم من كل ما جرى له – لا يزال يمتلك وطنا من الحكمة، يعج بالرموز، والسحر، وجمال الصدق، ومعرفة الغيب، والنوايا الطيبة، وما زال يمارس هوايته في تسخير الزمن، وإنه ويا للعجب! ما زال مفتونا بتوالي دورة الميلاد والموت. فقط تكة صغيرة وتعود الأحوال إلى ما كانت عليه». وكأن الكفراوي أراد أن يقول إن الزمن لا ينقضي، ولكن يكمن في الذاكرة ليعاش من جديد. وها هو سعيد الكفراوي يغادرنا لكي يعيش في الذاكرة حيوات متجددة، نستعيد من خلالها كيف أدرك أنه كان لا بد أن يترك عينيه ترحلان في البلاد، وفي حكايا العباد، وفي الكون منقادتين بعينه الثالثة، عين الكتابة. أما نحن، فنعيد قراءته لنجد أنه مقيم في ذاكرة الأدب لا يرحل.

 

الروائي اليمني محمد الغربي عمران

 

لروحك السلام ولنا أن نحزن. الكفراوي.. من قلة قليلة في المشهد الثقافي العربي من تميزوا باخلاصهم لفن معين، وأضحوا علامات مميزة به. فحين يحضر الكفراوي تحضر القصة، يحضر الحوار الجميل حول الإبداع ومحوره القصة. التقينا في عشرات الملتقيات في طرابلس، والخرطوم، والشارقة، وطبعا في القاهرة، في لقاءات الجمعة بزهرة البستان والأتيليه. ودوما يكون الكفراوي بتشيعه للقصة مثار التساؤلات. لماذا لا تكتب غير القصة.. متى ستكتب الرواية؟ وكانت ردوده هي: الإبداع عشق، وأنا عشقي القصة. من يظنون أن القصة تمرين لكتابة الرواية واهمون، فالقصة من الصعوبة، بل وأصعب من الرواية، ولذلك يفرون إلى الأسهل. القصة فن صعب جدا ولا تجيده إلا قلة. أنا لن أترك القصة لأنني لا أجد نفسي في سواها. دوما حين يحضر الكفراوي تحضر القصة، وكأنه سفيرها الأول، ممثلها الوحيد. في جلساته.. تحضر الذكريات فينثال الحديث عن فترات عمره.. عن تلك السجون التي تعرض لها، رفاق تعرف إليهم في السجون، عن متأسلمين، وأدباء يساريين. ترى لو عدت في حياة أخرى ماذا ستختار؟ كان هذا من أسئلة تطرح عليه، فيرد: أن أكون مصريا.. وأن أكتب القصة.. مع رفض الظلم. جيل من الأدباء العرب تتلمذوا على نصوصه، تلك النصوص المغرقة في مصريتها، وقد صنع ما تصنعه النصوص الأخرى ومنها الرواية ليقدم الإنسان والبيئة المصرية بكل آمال وتطلعات الإنسان العربي. ولذلك فقدت الساحة الإبداعية العربية أهم رموزها، خاصة في فن القصة القصيرة. ولهذا يتساءل من عرف الكفراوي، ومن صادقه.. كيف ستكون القاهرة لمن تعود زيارتها من الأقطار العربية، وقد وضع في خريطة زيارته تلك الجلسات التي يحلق فيها أدباء كثر كما يفعل المريدون حول الكفراوي.. مدد يا سيدي الكفراوي مدد.