عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Apr-2019

موفق كاتبي طبيب يتذكر:أيام سيل المحطة في عمان الأربعينيات

 

الراي - وليد سليمان - سيل عمان الذي كان مكشوفاً وظاهراً للعيان قديماً تمت تغطيته بشوارع طويلة من منطقة راس العين الى منطقة المحطة قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
وفي اتصالٍ مع الطبيب موفق خزنة كاتبي حدثنا عن ذكرياته حول جزء من هذا السيل «سيل منطقة المحطة» لأنه كان في مرحلة صباه من سكان حي المحطة في أربعينيات القرن الماضي.. وأشار كذلك ان ذكرياته تلك حول السيل كتبها في مذكراته «محطة عمان».
ومن ذلك مثلاً: «ان سيل المحطة هو امتداد لسيل عمان الذي ينبع من رأس العين في الجزء الجنوبي الغربي من عمان, ويسير شمالا حيث ترفده بعض الينابيع قبل ان يصل الى منطقة المدرّج الروماني, واشهر هذه النبعات «نبع الحوريات».
ويتابع السيل سيره بعد ان تنفصل منه ساقية تسقي بساتين المحطة, حيث ينعطف عند جسر رغدان- مجمع رغدان السياحي الآن- فيتجه الى الشرق ويصبح عند المحطة باتجاه شرق - غرب.
وفي سيره بعد جسر رغدان ينضم اليه سيل وادي الحدادة، ثم بعد مسافة اخرى ينضم اليه سيل يأتي من الجبل الهاشمي والقصور الملكية، وهو سيل شتوي يقع فوقه جسر سمي «جسر النَوَر».
ثم يسير وينضم اليه من الجنوب سيل عليه «عبارات» سمي جسر «النشا» حيث أسس بعض المستثمرين اثناء الحرب العالمية الثانية مكانا لصنع النشا من القمح في الزاوية, عند التقاء مجرى السيل بالشارع، وكانت المنطقة تُعرف بوادي الرمم، حيث كان مسلخ عمان في تلك الناحية, وكانوا يرمون فضلات المسلخ فتكثر الضباع والنسور.
لذلك كنا نسمع القصص عن الضبع وكيف «يضبع» فريسته المفردة فيلحقه الشخص المضبوع ويناديه «يابويْ وقِّف» فيصل به الى مغارته ويأكله!!.
لذلك عندما كنا في مدرسة ثانوية عمان - وكان مكانها في موقع سوق اليمنية في شارع طلال- وأحياناً كنا نتأخر بدوام المدرسة بعد العصر ونعود بالباص الى المحطة -فاذا تعطل الباص علينا ان نذهب مشيا الى المحطة، لذلك كنا نسير مجتمعين وننشد ونغني بصوت مرتفع كي يهرب الضبع اذا سمعنا.. لأنه كما قيل لنا إنه يخاف من الكثرة!.
ثم قبل سوق المحطة يأتي سيل صغير من المنطقة المعروفة الآن بحي السباق وجبل الهملان وعليه «عبَّارة» جيدة توصل الى الجبل المرتفع هناك، وكان يسكن منطقة سوق المحطة ضباط من الانجليز، ثم بعد الحرب العالمية سكنه جميل الصالح حتر ومجموعة من الذين أتوا الى المحطة بعد سنة 1948م.
وكان السيل يدخل المحطة ويقسمها الى قسمين رئيسيين هما: حي الضباط وحي السكة, وبينهما معسكر الجيش الاردني على الضفة الثانية للسيل.
وكانت مياه السيل تجف في شهر حزيران, وتبقى بعض «الحوامات» حيث يسبح فيها الاولاد او يصطادون السمك، حيث كنا نشتري «سنارة صيد» من سوق البخارية ونربطها «بخيط مصيص» الى قصبة طويلة ونضع في منتصف الخيط «فلينة»، نأخذها من غطاء زجاجة.. ونضع الطّعُم في السنارة، وهو عبارة عن دودة من جذر نبتة الخبيزة البرية، فاذا علقت السمكة تهبط الفلينة فنسحب الخيط حاملا السمكة.
وكانت تكثر الضفادع بعد جفاف السيل وتغزو المحطة، ونواحيها واحياءها.. فكنا نألف الضفدع وهو «بلعط» ثم ضفدع صغير ثم ضفدع كبير بأطواره التي ألِفناها.
وعند مدخل المحطة شمال السيل كان يوجد ملعب كرة القدم، وهو الملعب الرئيسي في عمان بالثلاثينيات و الاربعينيات ومكان العرض العسكري للجيش احيانا, ومكان مهرجان المدارس السنوي في أحيان اخرى.
وعندما يسير الماء في السيل يصبح حيّ الضباط في شماله وسور المحطة ومعسكر الجيش في جنوبه، ويفصل السيل عن السوق الشارع الرئيسي القادم من عمان , والذي يصل الى محطة سكة الحديد ثم الى المطار في ماركا ثم الى الزرقاء.
وفي اثناء سير السيل يفصل المعسكر عن سفح الجبل ويتابع سيره الى منطقة «عين غزال»، حيث كان البدو يستسقون من العين وهم يملأون «القِرَب» ويضعونها على الدواب.. وقد قيل ان ماء عين غزال والذي عليه مضخات الآن هو من اطيب المياه في عمان.
وبعد ذلك يتجه السيل شمالا الى حدود الرصيفة ثم الزرقاء ثم السخنة, حيث يدور ليكوِّن نهر الزرقاء ثم يصب في نهر الاردن آنذاك، والآن يصب النهر في سد الملك طلال.
ويبدأ السيل بالعودة اثناء فصل الشتاء وبعد هطول كمية من الامطار ويشكل نهرا كبيرا يصعب اجتيازه،
فيقوم بعض وجهاء حي الضباط باحضار العمال حيث يضعون الحجارة الكبيرة في مجرى السيل ليقفز عليها الكبار ويحملون الاطفال معهم.
اما اذا غمرت المياه تلك الحجارة فيشتغل بعض الحمالين بنقل الناس على ظهورهم تلقاء «عشرة فلسات» وهو القرش الاصفر، وقد اشتهر احد الحمالين بقوته واستطاعته, وكان اخرس فصار الناس يفضلون ان يقطعوا السيل على ظهره.
وقد يحتد السيل بشكل مخيف من جراء السيول التي ترفده, فينقطع سكان حي الضباط عن بقية المحطة, عمان-الأربعینیات ولا يستطيعون الوصول الى الشارع العام او الى السوق ليركبوا الباصات الى مراكز عملهم، فتصبح تلك الايام عطلة تلقائية لا تحتاج الى تقرير طبي او ورقة اجازة لاحقة!.
وكانت مدرستنا الابتدائية في وسط المعسكر, وكان استاذنا يسكن في حي الضباط فلا يستطيع الوصول الى المدرسة، وكنا نقف على الجانب الاعلى من حافة السيل الآمنة, لنرى استاذنا يؤشر لنا بيديه انه لا يوجد مدرسة هذا اليوم، فيأخذنا الفرح اذ سنتمكن من الاستمتاع بدفء البيت.
أذكر اننا خسرنا احد زملائنا في الصف الثاني الابتدائي، اذ كان يسكن في حي الضباط ,فقد اقترب اكثر من اللازم من حافة السيل المحتد فانزلقت قدماه وسحبه السيل .. ولم يجدوه الا جثة هامدة عند حاجز في الزرقاء!
وبقيت صورة زميلي الطفل الشركسي الاشقر الجميل «ممدوح» الذي تكسو وجهه «الزّهرة» في ذاكرتي الى سنوات طويلة، حيث حزِنا عليه اشد الحزن.
وصار الاهل ينبهوننا ان نبتعد عن السيل كي لا يصيبنا ما اصاب رفيقنا ممدوح. واذا احتد السيل فجأة وكان الموظفون والطلاب في عمان؛ فان عليهم العودة مشيا على الاقدام رغم شدة المطر والرياح.. ويسلكون طريقا عند حافة الجبل الذي يعلوه المقر الملكي, الى ان يصلوا الى الجسر الصغير الذي انشيء خصيصا, ليصل منطقة حي الضباط بقصر المعتمد البريطاني آنذاك, فيقطعون الجسر الى منطقة حي الضباط. وكانت مضارب النَّور هناك، فاذا لم يكن العائدون يشكلون تجمعا كبيرا كان النَّور يخرجون اليهم ويسلبونهم ما يملكونه..
لذلك صاروا في عودة الطوارئ تلك يسيرون على شكل مجموعات قوية يهابها غيرهم.
وقديماَ حاولت دائرة «الاشغال العامة» عمل جسر يصل الشارع بحي الضباط قرب ملعب المحطة، لكنهم لجهلهم آنذاك وضعوا شبكات من الحديد ضمنها كتل من الحجارة الكبيرة تصل بين حافتي السيل!! و لم يجعلوا لذاك الجسر «عيونا» تخرج منها مياه السيل المتدفقة.
لذلك فعند اول احتداد للسيل كان الجسر يشكل حاجزا كبيرا فتسير المياه فوقه بشكل ضخم!! ثم تميل وتحفر لها مجرىً في اراضي حي الضباط .. بقي المجرى الى سنوات طويلة شاهداً على «الجهل التكنولوجي».
وكان علينا ان نقفز مسافة متر ونصف المتر تقريبا كي نهبط الى الجسر السابق ثم الى الملعب، ثم يرتفع الشارع عن السيل عدة امتار عندما يقترب من معسكر الجيش.
وعلى الذين سيذهبون الى حي الضباط ان ينزلوا درجا عاليا مكونا من الحجارة والتراب المرصوص جيدا ليصلوا الى حافة السيل، حيث يقطعونه على الحجارة الكبيرة.
وكان هناك شارع ترابي في الجانب الشمالي للمعسكر، وقبل الطلعة الاولى ينعطف ليقطع السيل الى حي الضباط, لتسير فيه السيارات الكبيرة والطنابر التي تجرها البغال فيستطيع راكبوها قطع السيل اذا كان متوسط الحدة.
ولما كان لكل ضابط كبير حصان خاص به وآخر لمرافقه..فقد كان بإمكانهم قطع السيل من ذلك المكان على ظهور الخيل, وكذلك عربات الجيش الكبيرة فتعبر السيل لتعود بالجنود الى المعسكر.
وكان المسؤولون يعمدون في كل سنة خلال شهر نيسان الى تنظيف السيل وعمل مجرى صغير بما تبقى من مائه.. ليستمر الى نهاية شهر حزيران.
وقد اعتدنا ان ننزل ونلعب بالماء او نسير في ذلك المجرى الضحل.
وعندما يجف السيل يقوم بعض العمال بنصب «المناخل».. حيث يحفرون في طرف السيل المحاذي للجبل او في منتصفه قبل وصوله الى المحطة.. فيستخرجون منه افضل انواع الرمال من اجل البناء «رمل السيل» وباسعار مرتفعة آنذاك.
وهذه الحفر التي يتركونها سنة بعد اخرى تصبح عميقة تتكون فيها الحوامات - برك طبيعية للسباحة-.
وفي آخر الاربعينيات أنشأ جميل الصالح امام السوق جسرا خشبيا على اعمدة حديدية, كان اقرب الى الممر الضيق، وبقي يستعمله الناس الى ان وسّعوا شارع المحطة وانشأت وزارة الاشغال جسرا عليه.