الدستور-منذر كامل اللالا
في رواية « على كاهل الرحيل» للروائية هيام ضمرة، لا يبدو المكان مجرد خلفية للأحداث، بل كيان حي يشارك الشخصيات نبضها ووجعها، ويتحوّل من فضاء آمن يحتضن الطفولة والذكريات، إلى جغرافيا موبوءة بالموت والفقد والشتات، تكتب ضمرة برهافة من عاش الكارثة، لا لتسرد وقائع الحرب، بل لتعيد بناء الألم الإنساني بمفردات الحنين والانكسار، مستندةً إلى سردٍ شفيف، ينحاز للإنسان العادي، ذاك الذي لا تكتبه التقارير.
العنوان بوصفه عتبة دلالية:
عنوان الرواية «على كاهل الرحيل» يشي منذ البدء بثقل الاغتراب، فالرحيل ليس هنا فعلًا إراديًا، بل عبء يُحمل على الكتفين. الغياب المكثّف للمكان في العنوان يقابله حضوره الطاغي في المتن، وكأن الرواية تسأل القارئ: هل نستطيع أن نحمل أوطاننا على أكتافنا حين نُجبر على مغادرتها؟ هنا يتماهى المكان مع الجسد، ويغدو الكاهل رمزًا للذاكرة المحمولة والمنفى المرهق.
المكان كضحـية أولى:
منذ الصفحات الأولى، تتجلى علاقة «أمجد» – بطل الرواية – مع بلدته الزبداني وبلودان، لا بوصفها موطنًا فحسب، بل كجذر تكويني للهوية. المكان هنا ليس جغرافيًا بقدر ما هو وجداني، حميمي، شعري؛ الطبيعة ليست وصفًا محايدًا بل انعكاس داخلي للعالم، حيث البحيرة والنبعة والجبال ليست فقط عناصر مشهدية، بل شركاء في صناعة المعنى.
تصف الرواية بلودان بأنها «ملاذ ومقام»، تتماهى فيها عناصر الجمال مع استقرار الذات. من النبعة التي تلهم أمجد الشعر، إلى المروج الخضراء التي «تتضجع على امتداد النظر»، يُبنى المكان كفردوس طفولي، تتكامل فيه دورة الحياة بين الطبيعة والذاكرة والهوية.
لكن هذا الفردوس لا يلبث أن يُنسف، تغدو بلودان أرضًا مخرّبة، مفخخة، تطرد أبناءها بدل أن تحتضنهم،
في لحظة مفصلية، تتهاوى العلاقة بين الإنسان والمكان، وتتحول الجغرافيا إلى مقبرة مفتوحة:
«دمّروها وأحرقوا مروجها... نشَروا رائحة الموت بدل رائحة الزهور». هنا يتجسد قول إلياس خوري الحروب لا تقتل البشر فقط، بل تقتل الحجارةَ والأشجارَ أيضا «، تُقتل الطمأنينة، ويتحوّل البيت إلى ركام، والنوافذ إلى فُتات، وتُبعثر «أحاديث الكروم على وهن الأنّات». بهذا، لا تهدم الحرب الأبنية فحسب، بل تنسف الانتماء ذاته. المكان، الذي كان وطنًا، يصير عبئًا وجرحًا مفتوحًا.
البحر: استعارة المنفى:
في موضع آخر، يتحوّل البحر – الرمز التقليدي للانفتاح والرومانسية – إلى كابوس، إلى جغرافيا للموت. ففي البداية، تبدو أمواجه كأنها « ثوب راقصة إسبانية «، لكن سرعان ما يُكشف وجهه الآخر: مكان الغرق والفقد، «كأن الموج كمن أصابه مسّ من جنون»، يتحوّل من معبر للخلاص إلى فخ مميت.
تبلغ هذه المفارقة ذروتها في مشهد القارب، حين يغدو البحر حَكمًا بين الحياة والموت، تتلاشى فيه ملامح
البشر، ويُستبدل الأمل بنداء مفعم باليأس: «كان البحر ملاذًا، فإذا به يتحوّل إلى فخ. سلب منّا آخر ما نملك: الأمل «.
النفق والمستشفى: انقلاب الدلالات:
ببراعة سردية، تعيد الرواية تعريف مفاهيم الأمان والخطر: النفق، ذلك الفضاء المعتم، يصبح رمزًا للنجاة، بينما تتحوّل البلدة المفتوحة إلى ساحة للرعب، في المستشفى داخل «الكيان المحتل»، يواجه أمجد مفارقة قاسية؛ يجد الأمن والنظافة، لكنه يصطدم بتناقض الهوية؛ فهل يمكن للمكان المحتل أن يمنح إنسانيتك ما
ما سلبه وطنك؟ تقول الرواية: «هو العدو المحتل ... لكن يا إلهي، ما حكم سلطة تتعامل مع شعبها بالحديد والنار ؟!» .
المكان الحلم والمكان الصدمة:
عند الوصول إلى ألمانيا، يشتعل الحلم «سعة المشهد»، «الانطلاق»، «الحرية» كلها وعود المكان الجديد. لكن سرعان ما يتكشّف الوجه الآخر للمنفى، يبدأ الاغتراب بوصفه نشوة حضارية، ثم يتحوّل إلى عزلة وهيمنة ثقافية خفية، تفكك الذات المهاجرة وتعيد قولبتها ضمن نماذج القبول المشروط.
يروي السارد كيف تتحوّل نشوة الوصول إلى «وهم الاستقرار»، ويواجه أمجد وزوجته حقيقة مريرة: أن العدل المنشود في «بلاد الديمقراطية» هو مجرد صورة مثالية تنهار أمام «جائحة اجتماعية» أشدّ فتكًا من الحرب.
خاتمة: مكان بلا مرفأ:
رواية «على كاهل الرحيل» لا تروي فقط تجربة فردية في النزوح والمنفى، بل ترسم خرائط جديدة للمكان في الوعي العربي المعاصر، المكان هنا ليس فضاءً هندسيًا، بل حالة شعورية – حنين، خوف، صدمة، وانكسار، تقول الرواية، بهدوء كاشف، إننا نحمل أمكنتنا داخلنا، لكنها – حين تُدمَّر – تمزّقنا من الداخل. وفي النهاية، لا يعود المنفى مجرد مكان جديد، بل هو سؤال مفتوح عن المعنى، عن الهوية، عن الوطن الذي قد لا نجد له مرفأً في أي برٍّ ولا في أي ذاكرة.