لغة الإشارة على الشاشة الكبيرة.. الصمت حينما يتكلم
أشخاص من الصم: عبر الأفلام أصبحنا قادرين على فهم العالم وعيش تجاربه
الغد- إسراء الردايدة
في صالة مظلمة إلا من وهج الشاشة الكبيرة، جلسوا في صفوف متراصة، أعينهم معلقة على الصور المتحركة أمامهم. لم يكن هناك همس، ولا ضحكات تتسلل بين المقاعد. فقط صمت مشحون بالترقب، صمت يحمل ثقلا وعمقا، كأنه جزء من القصة نفسها.
على الجانب، وقف شخص بيدين تنسجان حكاية مخفية لا تسمعها الآذان. كان يترجم الصوت إلى إشارات، والإشارات إلى حياة. تلك اللحظات كانت مزيجا غريبا ومذهلا؛ الشاشة تروي بلغة الصورة، والمترجم يضيف صوتا صامتا بلغة الإشارة، والجمهور يتلقف هذا التناغم بكامل حواسه.
الغريب أن الصمت لم يكن حاجزا. كان الأمر وكأن الفيلم يملك قدرة عجيبة على التحدث بلغة الجميع. حركة الكاميرا، ارتجاف الضوء، تعابير وجوه الممثلين، وحتى أبسط التفاصيل، كصوت الريح الذي لم يسمعوه ولكن رأوه في حركة أوراق الشجر، كانت كافية ليعيشوا التجربة.
بين حين وآخر، كانت ابتسامة صغيرة تظهر على وجه أحدهم، أو نظرة تزداد عمقا، كأنهم يفككون رموز الصورة ويعيدون تركيبها بلغتهم الخاصة. غياب الصوت لم يُفقد السينما جمالها، بل أضفى عليها بعدا جديدا من التواصل الصادق والمباشر.
هذا المشهد ليس خياليا بل واقع مرسوم في نادي سينما الصم الذي ولدت فكرته من تجربة فيلم (Amplified -سكون)، الذي أخرجته المخرجة الأردنية دينا ناصر.
نادي سينما الصم ليس مجرد مكان لعرض الأفلام، بل هو مشروع إنساني يهدف إلى منح الصم تجربة سينمائية متكاملة. وبالتعاون مع مترجم للغة الإشارة " سيف الدين صالح"، تُعرض الأفلام بطريقة تتيح للصم الاستمتاع بها وفهمها. حيث يتم اختيار الأفلام بعناية، بالتواصل مع المخرجين للحصول على حقوق عرضها وترجمتها.
العروض بدأت بفيلم "جزائرهم" للمخرجة لينا سويلم، ثم فيلم فراولة الفلسطيني للمخرجة عايدة كنعان، وفيلم برتقال من يافا للمخرج محمد المغني.
أصل فكرة نادي سينما الصم.. من تجربة إلى منصة
بدأت فكرة نادي سينما الصم من تجربة عميقة خاضتها المخرجة الأردنية دينا ناصر أثناء عملها على فيلم Amplified )سكون). كان الفيلم يعكس قصة واقعية عن فتاة صماء تدعى هند، وجدت نفسها في مواجهة مع أصعب التحديات، بما في ذلك التحرش وفقدان الأمان. العمل على هذا الفيلم لم يكن مجرد رحلة سينمائية، بل كان تجربة اجتماعية وإنسانية كشفت الكثير عن واقع مجتمع الصم.
تقول ناصر عن بداية الفكرة لـ "الغد":"خلال عامين من العمل على فيلم سكون، كنت على تواصل مباشر مع مجتمع الصم. رأيت عن قرب التحديات التي يواجهونها، خاصة في الوصول إلى الفن والسينما. لم يكن لديهم وسيلة لفهم الأفلام التقليدية بسبب غياب لغة الإشارة، وشعرت أن هناك فجوة كبيرة يجب سدها."
ومن خلال العمل مع بطلة الفيلم، التي تعلمت الكراتيه لتجسد دورها، اكتشفت ناصر أن الصم ليسوا مجرد مشاهدين محتملين للسينما، بل يحملون مواهب وقصصا تستحق أن تُروى. تضيف:" كانت التجربة أكبر من مجرد فيلم. اكتشفنا المواهب الكامنة لدى الصم واحتياجاتهم الفنية. شعرنا أن السينما يمكن أن تكون وسيلة ليس فقط للترفيه، بل أيضا للتعبير والمشاركة."
وبعد انتهاء العمل على سكون، انطلقت المخرجة ناصر مع شريكتها بتول إبراهيم لتأسيس منصة "مسموع". كانت الفكرة هي تقديم محتوى مخصص للصم، يترجم بلغة الإشارة، مع إشراكهم في صناعة هذا المحتوى.
وتوضح ناصر: "أردت أن أخلق مساحة يمكن أن يكون للصم فيها صوت. أن يرووا قصصهم ويعيشوا تجاربهم الخاصة بطريقة تحترم خصوصيتهم وتُلهم الآخرين. منصة "مسموع" كانت البداية، حيث لم نكن نكتفي بترجمة المحتوى، بل أردنا أن نصنع محتوى يناسبهم ويعبر عنهم."
ومع نجاح منصة "مسموع"، شعرت ناصر بالحاجة إلى تقديم تجربة أكثر شمولية. وهكذا ولدت فكرة نادي سينما الصم، وهو مشروع يهدف إلى تقديم عروض سينمائية مخصصة للصم، مترجمة بلغة الإشارة، بحيث يشعرون أنهم جزء من التجربة السينمائية كما يعيشها الآخرون.
"كانت الفكرة أكبر من مجرد عرض أفلام. أردنا أن نجعل السينما تجربة متاحة للصم، ليس فقط عبر الترجمة، بل عبر اختيار الأفلام التي تلامس قضاياهم أو تعبر عن تجارب إنسانية عالمية. رأيت في عيونهم شغفا بالسينما، وشعرت أننا نسد فجوة كبيرة من خلال هذا المشروع"، وفقا لدينا ناصر.
والعمل مع مترجم لغة الإشارة سيف الدين صالح كان أحد أركان نجاح النادي. تضيف ناصر: "كانت الترجمة جزءًا أساسيًا من التجربة. كنا نشاهد الأفلام سويًا، نحدد النقاط المهمة، ونعمل على إيصال كل المشاعر والتفاصيل بلغة الإشارة. هذه العملية ليست سهلة، لكنها جوهرية لتقديم تجربة غنية وواقعية."
نافذة لرؤية العالم بقصصه وقضاياه
من خلال تقديم أفلام مترجمة بلغة الإشارة، أصبح النادي أكثر من مجرد مساحة عرض، بل تحول إلى جسر يصل الصم بالعالم من حولهم، حيث وجدوا في السينما لغة عالمية تتحدث إليهم وتعبر عنهم، فبالنسبة لآمنة سعيد، كانت السينما حلما صعب المنال.
كفتاة صماء، لم يكن حضور الأفلام تجربة يمكنها التفاعل معها بسهولة. تصف تجربتها السابقة قائلة: "في البداية، لم أكن أفهم ما يجري في الأفلام، خاصة في مشاهد الفرح أو الحزن. كان الأمر أشبه برؤية صور متحركة بلا معنى."
ولكن مع ظهور نادي السينما وتوفير مترجم للغة الإشارة، تغيرت التجربة تماما.
تقول آمنة كما ترجم كلامها سيف صالح: "أصبحت قادرة على فهم القصة كاملة، بل والعيش مع شخصياتها. السينما بالنسبة لي أصبحت نافذة أرى من خلالها الحياة وتجارب الآخرين. لم أكن أتخيل أن أعيش تجربة مشاهدة فيلم كما يفعل الآخرون، واليوم تحقق هذا الحلم."
آمنة، التي تميل للأفلام الواقعية، ترى في النادي فرصة لدمج الصم في عالم السينما، ليس فقط كمشاهدين، بل كجزء من مجتمع الفن والثقافة.
وبينما كانت آمنة تتفاعل مع السينما كأداة للفهم، وجدت دانا القيسي فيها وسيلة لفهم العالم وتجاربه.
حضرت دانا أول فيلم لها من خلال نادي السينما، وكان الفيلم يعالج قضايا فلسطينية. تعلق دانا: “لم أكن أظن أنني سأحب السينما كما يفعل الآخرون. الفيلم الذي شاهدته كان عن فلسطين، وهذا ما لفتني. السينما قادرة على توثيق الواقع الفلسطيني ونقل حقيقته للعالم."
بالنسبة لدانا، كانت التجربة تتجاوز مجرد متابعة فيلم؛ بل كانت نافذة لفهم الحياة من منظور مختلف، وفرصة لتوسيع آفاقها حول القضايا الإنسانية. تضيف:" من الجميل أن نرى كيف يتحدث الآخرون عن قضايانا من خلال الفن. السينما ليست مجرد ترفيه، بل وسيلة لفهم العالم والارتباط به."
الترجمة: حلقة الوصل بين الصمت والصورة
وسط الأضواء الخافتة للشاشة الكبيرة وصمت الجمهور المتعطش، يقف سيف الدين صالح، مترجم لغة الإشارة، كحلقة وصل لا غنى عنها بين ما يعرض على الشاشة وما يدور في قلوب الصم وعقولهم. سيف ليس مجرد مترجم، بل هو صانع تجربة بصرية متكاملة، ينسج بيديه حكايات لا تُنقل بالكلمات، بل تُحس بالإيماءات والنظرات.
وقبل بدء العرض، يلتقي سيف بفريق العمل لمشاهدة الفيلم وتحليله. يركز على المشاهد المعقدة التي تحمل مشاعر متباينة أو أحداثا سريعة قد تبدو عصية على الفهم البصري وحده. هذه المرحلة تتطلب دقة متناهية وحسًا فنيًا عاليًا.
وعن هذا يقول: "ترجمة فيلم للصم ليست مجرد نقل للنصوص، بل هي عملية غوص في أعماق المشاهد لفهم تفاصيلها الدقيقة؛ من تعبيرات الممثلين إلى أصوات الريح وهدير البحر."
وبعد تحليل الفيلم، يتم تسجيل الترجمة في استوديو متخصص. هنا، يتحول النص إلى لغة إشارة ديناميكية تُضيف إلى الفيلم أبعادا جديدة. يتم عرض الترجمة كشاشة منفصلة تتزامن مع العرض، ما يتيح للصم تجربة سينمائية كاملة.
ويتحدث سيف عن التحديات التي يواجهها خلال عملية الترجمة، موضحا أن المهمة تتجاوز مجرد نقل النصوص إلى لغة الإشارة. يقول: "الأمر يتطلب إيصال المشاعر بشكل بصري؛ كيف تنقل لحظة فرح عارمة أو ألم داخلي دفين من خلال الإشارة؟ يجب أن أعيش المشهد بكل تفاصيله، وأترجمه وكأنني جزء منه."
من الضحكات الخافتة إلى صخب مشهد أكشن، ومن همسات الريح إلى صمت البطلة المؤلم، يعمل سيف على تحويل كل هذه العناصر إلى إشارات تحمل في طياتها روح الفيلم. ويقول عن هذه التجربة: "إنها مسؤولية كبيرة، لكنها تمنحني شعورا بالسعادة عندما أرى تفاعل الصم مع الأفلام. أن أكون الوسيط الذي يفتح لهم نافذة إلى هذا العالم هو شرف لي."
وأحد أكبر التحديات التي يواجهها سيف هو الحفاظ على تركيزه طوال مدة الفيلم، خاصة عندما يكون العمل طويلا أو مليئا بالتفاصيل.
الترجمة قد تستغرق ساعات من العمل، لكن النتيجة تستحق الجهد. يقول: "السينما ليست مجرد ترفيه. هي تجربة تتيح للصم فهم العالم بشكل أعمق. أن أكون جزءا من هذه الرحلة يجعلني أشعر أنني أساهم في دمجهم بالمجتمع بطريقة فنية وإنسانية."
بالنسبة لسيف، الترجمة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي فن قائم بذاته. يؤكد أن دوره لا يقتصر على ترجمة النصوص، بل يشمل نقل الإحساس الكامل بكل ما يدور على الشاشة. يصف هذا بقوله: "أحيانًا تكون الترجمة عن طريق الإشارة أقوى من الكلمات. عندما تُترجم صوت انفجار أو لحظة بكاء صامتة إلى إشارات، فإنك تنقل إحساسًا يتجاوز اللغة."
تجربة بسمة عبد العال التي كانت حاضرة في عرض أمس الذي كان في مؤسسة مماغ، التي وجدت في السينما وسيلة لدمج الصم وتمكينهم من المشاركة في الفن والثقافة.
تقول بسمة: "السينما لغة عالمية، لكنها يجب أن تكون متاحة للجميع، بمن فيهم الصم. هذا النوع من العروض هو أكثر من مجرد تجربة؛ إنه خطوة نحو دمج الصم في مجتمع الفن والثقافة".
وترى بسمة أن السينما ليست مجرد قصص تُروى على الشاشة، بل هي جسر يربط بين الناس، ويسمح بمشاركة التجارب الإنسانية بمختلف أبعادها.
وتضيف:" السينما قادرة على أن تكون قوة دافعة نحو المساواة. هي ليست فقط وسيلة لفهم الحياة، بل أداة لتغييرها ودمج الجميع في نسيجها."
رؤية ناصر للسينما ودورها الاجتماعي
تؤمن المخرجة دينا ناصر أن السينما ليست مجرد فن بصري أو صوتي، بل هي وسيلة لتمكين المجتمعات وتعزيز التواصل الإنساني.
وتؤمن أن : "السينما قادرة على تجاوز الحواجز اللغوية والاجتماعية. إنها أداة لفهم القضايا، وإيصال الرسائل، وخلق حالة من التفاعل الحقيقي. بالنسبة لي، المخرج ليس مجرد راوي قصص، بل هو مسؤول عن إحداث فرق وتغيير في المجتمع."
من خلال نادي سينما الصم، نجحت ناصر في تقديم نموذج يلهم المخرجين والفنانين حول كيفية جعل الفن متاحًا وشاملًا. كما أنها أثبتت أن الصم ليسوا جمهورًا سلبيًا، بل هم جزء حيوي من التجربة السينمائية.
"الفن لا يقتصر على نوع معين. في سكون، واجهنا تحديات كبيرة في الإنتاج، خاص مع بطلة الفيلم الصماء. ولكن هذه التحديات كشفت لنا عن فجوات كبيرة في دمج الصم في الفن والمجتمع"، بحسبها.
الصم الذين شاركوا في التجربة لم يروا الأفلام فقط، بل عاشوا تفاصيلها وتفاعلوا مع رسائلها. ,ومن خلال الترجمة، أصبحت السينما لغة مشتركة، تحطم الحواجز وتجعل الفن متاحًا للجميع.
نادي سينما الصم يقدم نموذجا ملهما لكيفية استخدام السينما كأداة للتغيير الاجتماعي. من خلال دمج الصم في تجربة سينمائية شاملة، يقدم النادي فرصة لإعادة التفكير في مفهوم الفن والوصول إليه.
هذه التجربة تؤكد أن السينما ليست مجرد صوت وصورة، بل هي أداة قوية لتجاوز الحواجز، وفهم الإنسان، والتواصل مع قضاياه وتجربته الحياتية، فالأمر ليس مجرد عرض أفلام، بل كانت لقاء إنسانيا بين لغة الصورة وجمال الإشارة.
فالسينما ليست حكراً على أحد، بل هي فن يجمعنا، ويوحدنا، ويتيح لنا أن نرى العالم بعيون جديدة.