عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Sep-2020

"المصرفي" في ضيافة فيروز: جرعة إنعاش للوصاية الفرنسية

 الحرة-مالك العثامنة

يسألها ساحر الصوت الدافئ حكمت وهبي في لقاء إذاعي من باريس عام 1988، هكذا مباشرة وبعذوبة:
 
"مم تخاف فيروز؟" تجيبه بدفء مكتمل الطمأنينة: "من فيروز".
 
يستدرك أميغو العرب بذكاء ويستفسر: "من اسم فيروز؟".
 
تجيب بحسم يفتح كل أبواب التأويل: "طبعا!".
 
كان لقاء الراحل نجم إذاعة مونت كارلو اللبناني مدته عشر دقائق، اقتطعها من وقت السيدة فيروز في حفلتها الباريسية الشهيرة في صالة بيرسي، وقد تلقت قبل ذلك بيوم، أحد أرفع الأوسمة الفرنسية بأمر الرئيس فرانسوا ميتران.
 
شخصيا أتذكر مشاهد التكريم وحفلة باريس 1988 جيدا، سجلتها على "كاسيت فيديو" وأعدته مرارا وتكرارا حتى وثقت اللحظة في ذاكرتي بالصوت والصورة والألوان.
 
جاك لانغ، وزير الثقافة الفرنسي أيامها، يقف أمام السيدة فيروز ويقول لها بلغته الفرنسية إنه يستمع لها منذ كان شابا صغيرا.. وإنه سعيد بعد كل هذا العمر أن يقلدها وسام الفارس.
 
في السياسة، كان ماكرون ـ مثل ريما ـ يمارس الوصاية، ويحتكر حق وتوقيت الصورة
 
(كان جاك لانغ شابا عشرينيا عندما وصل بيروت بحرا من مرسيليا في خمسينيات القرن العشرين مع فرقة مسرحية ليقدم عروضا في لبنان، والتقى الأخوين رحباني وفيروز في بعلبك، وسمع فيروز أول مرة.. وعاد إلى بلاده مسحورا).
 
فيروز، تحني رأسها لتتقلد الوسام من يد الوزير الفرنسي بالغ الثقافة، وتشكره بكلمات قليلة وموجزة، كعادة نهاد حداد في كل حوار منذ صارت "فيروز".
 
عام 1988، كانت فرنسا تحتفل بالسيدة الأكثر شهرة في العالم العربي، والأكثر سحرا بغموضها كذلك.
 
استطاع مذيع البرامج فريدريك ميتران أن يقنعها بالظهور في برنامجه التلفزيوني الأشهر في فرنسا، حضرت فيروز وهي تخاف اللقاءات المتلفزة لكنها ارتاحت لفردريك ميتران لأنه حساس ومحب كما شعرت وهو يحاور الراحلة "داليدا" في مقابلة سابقة.
 
أيامها، كانت ريما في المشهد أيضا، كانت ترافق والدتها في باريس، كانت تتموضع كما هي دائما في خلفية المشهد الفيروزي، في زاوية منه، هي ريما التي كانت في المشهد الشهير وعنوان الأغنية الخالدة، وهي ريما التي تشعر بغضبها المنفجر كبركان من تراكيب عقد النقص وقد حولته إلى مظلومية بنكهة "رحبانية".
 
بكل الأحوال، لم تكن باريس أول المحتفلين بفيروز، لم تكن فيروز جديدة على احتفال الزعماء والقيادات والنخب بها، ألبومها مليء بالصور التي لم نر أكثرها بعد، وربما في الصور جميعها مثل صورتها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان في عينيها ذلك الخوف، من اسم فيروز.
 
♦♦♦
 
في العام 2020، يقرر الرئيس الفرنسي ممثل قطاع البنوك والمصارف وبيوت المال التي لا تعرف الموسيقى، إيمانويل ماكرون أن يزور لبنان مرة ثانية منذ انفجار مرفأ بيروت.
 
في الزيارة الأولى كان وقحا مع النخبة الأكثر وقاحة وفسادا في كل نظم حكم الشرق الأوسط، نخبة الحكم في لبنان، باغت أحياء بيروت بزيارة "شعبية" فباغته بيارتة بما لم يتوقع سماعه فارتبك وصرح بوعود إصلاحية كأنه المندوب السامي الفرنسي نفسه.
 
في الزيارة الثانية، يغرد "ماكرون" معلنا عن أنه سيصل بيروت مساء ليتناول القهوة في بيت السيدة فيروز في "أنطلياس"! كان يستحضر الأخوين رحباني "بأنطلياس"، وفعلا.. ذهب ماكرون إلى بيت السيدة القريب من أنطلياس في "الرابية".
 
يدخل ماكرون ساحة البيت ويصعد الدرج مع ريما، ريما الآن في المشهد لوحدها، وضعت أمها في الخلفية، في مكان مخفي جدا من الخلفية، ريما الآن تمارس وصايتها على السيدة، وهي تستقبل رئيس الجمهورية الفرنسية، ذلك المصرفي الذي هو أيضا يرغب بممارسة الوصاية على لبنان.
 
في المشهد.. رغم عدم حضورهما، كانت فيروز مثلما لبنان، الصورة التي ينتظر رؤيتها الجميع، وكان ماكرون مثل ريما، زاويتان في خلفية المشهد، فيروز في صالونها ولبنان كله يشاهدها.
 
حتى أثاث الغرفة بكل التفاصيل حظي باهتمام أكثر من الاهتمام بماكرون. كانت الحصيلة بعد الزيارة ثلاث صور، احتكرتها ريما "الوصية" والغاضبة على كل شيء، وأطلقتها بتوقيتها المناسب.
 
فعليا، الزيارة المكرونية للسيدة لم تخرج لبنان من مأساته، كانت فاصلا دعائيا مبهجا لقلوب الملايين في العالم العربي، وكثير من اللبنانيين، لا أكثر.. ولا يمكن أن يكون أقل، فتلك فيروز.
 
كانت حركة علاقات عامة لعبها المصرفي بشطارة وفهلوية، ربما هو يحب صوت فيروز فعلا، لكنه بالتأكيد لا يحمل برنامج عمل مشترك وحقيقي للعمل مع السيدة في السياسة اللبنانية.
 
في السياسة، كان ماكرون ـ مثل ريما ـ يمارس الوصاية، ويحتكر حق وتوقيت الصورة.
 
♦♦♦
 
في الخارج، خارج لبنان نقصد، كان المشهد في عوالم التواصل الاجتماعي مهرجانا من الفرح والمواقف والعبارات والإنشائيات المدعمة بالصور الثلاث التي أطلقت سراحها ريما.
 
الكل يريد تشكيل السيدة فيروز كيفما يريد ويؤمن.
 
بعضهم تحدث عن فيروز واستقبالها لماكرون كسقطة سياسية، بما يجعلك تشعر أنها كادر من كوادر العمل الفلسطيني المسلح وقد انشقت عنهم.
 
البعض يعتب على السيدة لأنها قبلت استقبال ماكرون.
 
البعض، أفرحته الصورة، أبهجت قلبه.. ليس سهلا أن ترى فيروز في الكواليس، فما بالك في صالون بيتها!
 
الأغلبية وجدت أنها أكبر من فتى الإليزيه الأشقر وأنه هو من نال الوسام (ماكرون ربما أذهله رد الفعل ذلك فعلا).
 
البعض تحمس أكثر، وطرحها رئيسة للجمهورية! والطرح على عبثيته وسذاجته يغدو منطقيا حين تسمع جبران باسيل يتحدث في السياسة مثلا، وهو صهر الرئيس وكاردينال القرار في بعبدا.
 
الزيارة المكرونية للسيدة لم تخرج لبنان من مأساته، كانت فاصلا دعائيا مبهجا لقلوب الملايين في العالم العربي، وكثير من اللبنانيين
 
من أعرف من لبنانيين، كانوا أكثر واقعية، وبالتالي كانوا أكثر قسوة، لأن واقع لبنان لا يتحمل مهاترات أكثر، كانوا غاضبين من كل المشهد. فلبنان في موت سريري كما يقولون.
 
في مقال واقعي وموجع وحزين، يكتب اللبناني جهاد بزي نحن عنوان بسيط وموجز "فيروز ليست لبنان": "في مئة عام من عمره، قد تكون فيروز أحلى ما أنتجه لبنان، لكنها ليست لبنان الذي يظن الرئيس الفرنسي أنه جلس معه وشرب القهوة. لبنان في مكان آخر، هناك عند المرفأ، يمضي إلى نهايته وهو يصر أنه في مرحلة التأسيس. لبنان الحقيقي، بطوائفه وزعمائه وفساد أخلاقه وقوانينه. لبنان في موته البطيء. لبنان في نشيده الوطني الذي لشدّة الجفاء بيننا وبينه، نعجز جميعنا عن ترداد كلماته، بينما نحفظ مئات أغاني فيروز ونختار منها ما يقوله الفرنسي للسيدة، أو تقوله له".
 
♦♦♦
 
اتفقت أو اختلفت مع "ماكرون"، فهو رئيس الجمهورية الفرنسية الذي قام بزيارة السيدة فيروز في بيتها وقلدها وساما في صالونها الخاص.
 
ماكرون، الذي اصطحب معه في الرحلة سادن الرواية التاريخية الإنسانية الحديثة أمين معلوف، تفوق على كل مدعي الزعامة في لبنان، قوض كل زعاماتهم، وبحركة واحدة اختطف منهم الزعامة وهو الفرنسي وريث جمهورية الانتداب.
 
تفاصيل الزيارة ونوع القهوة التي شربتها السيدة مع ماكرون وكل ما تحدثوا به هو الآن رهن مزاج ريما "الحندئة" والغاضبة.
 
أما السيدة نهاد ابنة وديع حداد ستعود إلى عزلتها، ربما غرفة ما بجانب هذا الصالون، تصلي مسبحتها الوردية وترتل لمريم الممتلئة نعمة، فتحاول أن تتخلص من خوفها، خوف من فيروز، فيروز التي بقيت في الصالون كما اللوحة، لعبة ريما الجديدة التي سنشهدها في الأيام القادمة.
 
أثناء ذلك.. السياسة تضج في التفاصيل، ماكرون ليس في لبنان وحدها اليوم.
 
سيد الإليزيه يحمل جمهوريته بكل ثقلها الأوروبي والدولي ويتجول في الشرق الأوسط، وسيد الإليزيه لديه مواقف حادة وواضحة في قضايا العالم، وفي الشرق الأوسط وشرق المتوسط تحديدا.