يوسف منصور يكتب: موت النيو ليبرالية ..
عمون
يوسف منصور
لحسن الحظ، يعيد عدد متزايد من الحكومات والاقتصاديين والمؤسسات النظر في مبدأ "النيو ليبرالية" الذي تبناه العالم منذ الستينات (ومنذ التسعينات في الأردن) في القرن الماضي وفرضه صناع السياسات النيو ليبرالية الغربية في ثوب "حرية السوق" والتي تعني حقيقةً "حرية رأس المال" كنوع من الاستعمار الجديد بعد تحرر غالبية الشعوب من الخضوع الاستعماري (باستثناء فلسطين الحبيبة).
توصف الأفكار الأساسية لليبرالية الجديدة بأنها أنشطة رأسمالية تعمل دون الحاجة لتدخل الدولة، وتترجم ب عبارة "لا يهم أن هنالك أغنياء وفقراء في المجتمع". وحسب هذا الفكر ليس من واجب الحكومة تقديم نُظم تعليم وصحة ملائمة لتمكين الأجيال من الإنتاج والخروج من الفقر، وبدلاً من مدارس حكومية جيدة ومستشفيات عامة/حكومية جيدين، فالحل بالنسبة للنيو ليبراليين هو مدارس خاصة متفوقة ومستشفيات خاصة فارهة لا يتمكن من استهلاكهما إلا الأثرياء.
يذكرني هذا الأمر بنقاش حين كنت مدرساً في جامعة "تكساس آ أند إم" مع طالب دكتوراه مشبع بالفكر النيو ليبرالي يدّعي فيه بأن التعليم ليس سلعة أو خدمة عامة بل هو خدمة خاصة. قلت له حينها، وأكرر إجابتي هنا، صحيح أنه ليس سلعة أو خدمة عامة، ولكن الحكومات التي تهمل التعليم العام تفقد مستقبل الأمة وتضعف فرصتها في تحقيق التنمية، أي أنها حكومات قصيرة النظر.
لقد أقنع الخبراء الاقتصاديون والسياسيون الليبراليون الجدد شعوبهم أو حكومات هذه الشعوب بأن تدخل الحكومة في الأسواق ضار وغير فعال، ووعدت الإدارات الليبرالية الجديدة بإلغاء القوانين التي تقيد السوق ولكنها قدمت العكس تماماً كالمزيد من القوانين والمحامين (تغيير القوانين هو الشغل الشاغل للحكومات في الأردن)، واعتماد اتباع الليبراليين الجدد على المعونات أكثر فأكثر (وهو ما يحدث في الأردن)، وعلى الرغم من خصخصة العديد من كبار الشركات التي كانت تملكها الدولة استمرت البيروقراطيات الحكومية المتتالية بالنمو وازدياد عدد موظفي الحكومة، وأنشأت هيئات ومؤسسات حكومية مستقلة برواتب عالية، ودون الحاجة لها في الكثير من الأحيان، لتصل موازناتها في بعض السنين الى ملياري دينار. ولم ينجم عن تحرير التجارة تنافسية أكبر في الأردن (ولا في العالم) حيث لا يزال العجز في الميزان التجاري (الصادرات ناقص الواردات) يصل الى حوالي عشرة مليار دينار. ولم يحصل سلام عالمي، بل قد يتسبب تحرير التجارة ثم التراجع عنها مؤخرا في حرب عالمية ثالثة. ولم ينجم بشكل عام أسواق أكثر كفاءة من الحكومات، فمعايير الفساد ارتفعت، والتعقيد في الإنتاج (ادخال التقنيات والقيم المضافة) لم يزداد بشكل يذكر. كما ازداد الفقر واتسعت الهوة بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، وهو ما يؤدي عادة الى عدم الاستقرار على المدى المتوسط والطويل كما أشار بيكتي في كتابه حول رأس المال (باعتقادي سيحصل هذا الاقتصادي على جائزة نوبل في الاقتصاد قريبا). حتى الولايات المتحدة، تضخمت البيروقراطية فيها لتبلغ ميزانية الحكومة 6 تريليون دولار.
أعادت الليبرالية الجديدة وابطالها توجيه عملية التشريع بعيدًا عن الشعوب الذين كان من المفترض أن تمثلهم الحكومات نحو رغبات رؤوس الأموال وأصبحت المشاركة العامة في صياغة القرار أكثر تعقيدا وصعوبة وأصبحت القوانين أكثر تحديدًا وتقنية وتعقيدًا وانتشر انعدام الثقة على نطاق واسع. وأصبح الشغل الشاغل للحكومات تعديل القوانين والتشريعات وكأنه الهدف الوحيد من وجود الحكومة وهو أمر مضحك ومؤلم معا.
يستمر صندوق النقد الدولي (حتى في نشرته الأخيرة قبل أيام) بالادعاء بوجوب تقليص حجم الحكومة لتشجيع المنافسة والاستثمار والإنتاجية. رغم أن التجارب المبنية على هذا الإطار الفكري الذي تم تطبيقه في الكثير من الدول ومن بينها الأردن لم ترفع من وتيرة نمو الاقتصادات.
لقد حان الوقت لدفن التجربة النيو ليبرالية الى غير رجعة، والبدء في الاستفادة من تجارب دول تدخلت إيجابيا في اقتصاداتها وكانت حكوماتها فاعلة في تحقيق النمو والتنمية مثل كوريا الجنوبية، والصين، واليابان، وماليزيا، وغيرها من الدول التي لم تصغ للفكر النيو ليبرالي.