الغد-عزيزة علي
كتاب "التراث البحري في العقبة" الذي صدر عن وزارة الثقافة، ليس كتابًا عن الماضي فقط، بل هو محاولة صادقة لإحياء نبض تراث كاد أن يُنسى، ولتوثيق عالم بحري ثري، عاشه الأهل والآباء، وتركوه لنا كأمانة وحنين. وهو رحلة عبر الزمن، نغوص فيها بين الشباك والحكايات، بين المدّ والجزر، لنستعيد ملامح مجتمع بحرٍ بسيط، كان البحر فيه رزقًا ومأوى، وملعب طفولة، ومصدر فخر.
يتوقف المؤلف عند رحلات الصيد الطويلة "السرحة"، التي تجاوزت المياه الإقليمية، ويعرض خرائط المصائد البحرية، وأنواع الأسماك، وأسماء المواقع البحرية المحلية، كما يوثق الموروث الشعبي الشفهي المرتبط بالبحر والحياة الساحلية.
ويضم الكتاب في فصوله توثيقًا لجوانب التراث البحري المادي، من قوارب وسفن وأدوات صيد وشباك وأساليب تقليدية، إلى جانب التراث غير المادي، من معتقدات ومفردات محلية وأساطير وأغانٍ بحرية، ومعارف متراكمة تناقلها الصيادون جيلًا بعد جيل.
وقد استند المؤلف، الباحث عبدالله منزلاوي ياسين، إلى تجربة شخصية ومعايشة حقيقية، حيث نشأ في بيت يعتاش من البحر ويعشق ملوحته، وكان والده – رحمه الله – من أعمدة الصيد التقليدي في العقبة، فحمل المؤلف ذاكرة حيّة غنية، دعمها بمقابلات مع كبار الصيادين، ووثائق أرشيفية ومراجع تراثية متخصصة.
ويؤكد المؤلف على أن هذا الكتاب هو محاولة للحفاظ على ما تبقّى من ملامح هذا التراث، قبل أن تبتلعه الأمواج الحديثة. إنه وقفة تأمل وامتنان لأولئك الذين عاشوا البحر حبًا وعملاً، وتكريم لمدينة صاغها البحر، وأعطاها هوية لا تشبه سواها.
بين ضفاف البحر الأحمر، وتحت ظلال النخيل التي ترقص على وقع النسيم البحري، تمتد مدينة العقبة كقصيدة محفورة في الذاكرة، لا تنتهي أبياتها ولا يخفت سحرها. ليست العقبة مجرد مدينة ساحلية، بل هي نبض البحر وهمسه، وذاكرة أمواجه، وحافظة أسراره التي رواها الصيادون ذات مساء، وسجّلتها الرمال، ودوّنتها القوارب الشراعية في رحلاتها الطويلة.
في مقدمته للكتاب، يشير منزلاوي ياسين إلى أن التراث البحري في العقبة تراث ثري وعميق وجميل. فالعقبة مدينة ساحلية ومينائية قديمة، لها تاريخ عريق، وقد احتضنت مختلف جوانب ومفردات هذا التراث البحري، الذي تميز بتنوعه وتفرده وجماله.
ويضيف المؤلف: "أكرمني الله بأن أكون على صلة وثيقة بهذا التراث العظيم، إذ كان والدي صيادًا منذ أن كان في العاشرة من عمره، ثم أصبح (ريس بحر)، وامتلك عدة قوارب للصيد، ثم تحول إلى تاجر أسماك وافتتح محلًا لبيعها. وواصل ممارسة الصيد بكل أنواعه وطرقه وأدواته لأكثر من ستين عامًا.
ويقول ياسين كنت أرافقه في الكثير من رحلات الصيد منذ أن تجاوزت الخامسة عشرة من عمري. وكان، رحمه الله، يصحبني وإخوتي للصيد بالقارب بعد انتهاء الدوام المدرسي في فترات الظهيرة. أما أثناء العطلة الصيفية، فكنا نذهب للصيد من الصباح حتى المساء. وفي شهر رمضان، كان أبي ينصب خيمته على الشاطئ الجنوبي في منطقة المملح، حيث نقضي الشهر كاملًا هناك، نصطاد من الصباح حتى قبيل الغروب، ثم نعود للبيت لنفطر على ما اصطدناه. حتى في عطلات نهاية الأسبوع والأعياد، كنا ننظم رحلات عائلية مع أقاربنا إلى الشاطئ الجنوبي، لنقضي معظم يومنا في الصيد والتنزه.
ويضيف المؤلف؛ "كان البحر نزهتنا الرئيسة، وكانت وجبتنا المفضلة هي السمك. كنا نعرف أنواعه وأصنافه، ونتقن طرق صيده وطبخه، ونعرف أيها ألذ طعمًا. اعتدنا رؤية أدوات الصيد في كل زاوية من زوايا البيت، ووالدي يصنع "سخونه"، ويرقع شبكته، ويربط خيطه بستارته. وكان لكل واحدٍ منا أدوات الصيد الخاصة به".
وكان البحر والصيد يحتلان مساحة كبيرة من حياتنا، فَعشقنا هذا التراث ونشأنا عليه، وحفظناه عن ظهر قلب. إلا أن الظروف تغيّرت؛ فانتشرت المشاريع المختلفة على شواطئ العقبة، وابتلعت كثيرًا منها. وسُنّت القوانين والتعليمات التي تنظّم وتقيّد الصيد من حيث الزمان والمكان والنوع والأدوات، فحصرته في الصيد المرخّص بأنواعه وأدواته فقط، ومنعت الصيد الشعبي، مما أثّر كثيرًا على التراث البحري الشعبي، الذي بدأ بالانحسار والتغيّر والاختفاء.
ويقول ياسين إن الكتاب جاء لتوثيق التراث البحري في العقبة، قبل أن تندثر مفرداته وتغيب ملامحه. يركّز الكتاب على التراث البحري في العقبة خلال القرن الماضي، حين كانت مهنة الصيد إحدى المهن الرئيسة في المدينة، وكانت رحلات الصيد الطويلة من أبرز الأنشطة وأكثرها انتشارًا آنذاك.
يتناول الكتاب جانبي التراث البحري، المادي وغير المادي، من خلال المعارف والخبرات التي يمتلكها الصيادون أنفسهم؛ فيستعرض القوارب والسفن التراثية، ورحلات الصيد، وأدواته وطرقه، إضافة إلى كل ما يتعلق بالبحر من أماكن ومصائد وأسماك ومرجان ومعتقدات ومواقع وغيرها.
وقد استند في إعداد هذا الكتاب إلى ما حفظت وتعلمت من والده، إضافة إلى مقابلات مع عدد من الصيادين، خاصة كبار السن الذين عايشوا وشاركوا في رحلات "السرحة" الطويلة خارج الحدود. كما استعان بالمصادر والمراجع المتوفرة حول البحر والتراث البحري، وبالوثائق، لا سيما أرشيف المكتبة الوطنية وسجل محكمة العقبة الشرعية.
وأخيرًا، فإن هذا العمل هو محاولة متواضعة مني لحفظ وتوثيق تراث العقبة البحري، ومساهمة في خدمة هذا الوطن العزيز. والله الموفق.
بعنوان "العقبة هبة البحر"، يشير ياسين إلى أن العقبة تدين في تشكّلها وجمالها وأهميتها لبحرها وموقعها وأهلها؛ فهذا هو سر وجودها، وسر تفرّدها، وهويتها التي تميّزها وأبرز ملامحها. لقد حوّلت العقبة تحديات موقعها إلى فرص تميز، فعلى الرغم من هامشية موقعها بالنسبة لشرايين الملاحة والتجارة الدولية، ووقوعها بين أقاليم متعددة، وبعدها عن المناطق المأهولة، ووجودها وسط بيئة صحراوية قاسية، ومحدودية ساحلها، وضيق مدخل خليجها، واحتضان الجبال لها، إلا أن البحر استطاع أن يحوّل كل هذه التحديات إلى عناصر قوة؛ فجعل منها مركزًا حضريًا بارزًا، ومنفذًا مائيًا دوليًا مهمًا، وأضفى عليها من السحر والجمال ما طغى على قسوة الظروف.
ويشير المؤلف إلى أن أهل العقبة، على الرغم من قلة الإمكانات والموارد، استطاعوا أن يجعلوا من العقبة درة الخليج وعروس البحر، فحوّلوا التحديات إلى فرص، وعمروها وطوّروها ودافعوا عنها. جعلوا من موقعها نقطة تواصل وتبادل حضاري وجذب سكاني، ومن صحرائها واحة خضراء ومصدرًا للتنوع والإثراء.
وساعدهم في ذلك اهتمام رسمي كبير تمثّل في الدعم والبناء والتخطيط التنموي الواسع، حتى أصبحت العقبة من أجمل مدن المنطقة وأكثرها تطورًا وجذبًا وتنوعًا وثراء.
وقد حملت العقبة في جنباتها ملامح القرية والمدينة، ومزايا الحاضرة والبادية، وخصائص الريف والساحل؛ فكانت إضافة نوعية للتراث والثقافة الوطنية، ومدينة جاذبة، وفرصة حالمة، ولوحة ساحرة أدهشت كل من زارها أو أقام فيها.
ويرى ياسين أن العقبة قد تميّزت بجمال آسر امتد إلى كل أرجائها؛ فَرمالها البيضاء، وجبالها الصخرية الحمراء، ونخيلها الأخضر، ومياهها الزرقاء، وأصيلها المتوهّج بالأحمر، ومرجانها البديع، وأهلها البسطاء الودودون، جميعها سحرٌ أبهر كل من زارها، وألهم كل من حضرها.
وقد عبّر عن هذا الجمال الرحّالة الأميركي "هنري ردجواي" عند زيارته للعقبة عام 1874م، فقال: "وهكذا قضينا الأيام الأخيرة من شهر آذار في العقبة، نمارس رياضة السباحة أحيانًا، ونتنزه على الشاطئ الجميل أحيانًا أخرى".