سوشيال ميديا
عيسى الشعيبي
تعرّضت الثورة السورية على مدار سنواتها المديدة، الى ثلاث نكبات مروّعة، اثنتين من صنع خارجي (إيران وروسيا) والثالثة كانت ذاتية، حين انتشر الإرهاب في اذيالها، وشوّه وجهها لاحقاً وكاد يفتك بها بعد ظهور "داعش". وفي غضون ذلك واجهت الثورة جملة من العثرات والأزمات والتحديات من داخل بيت الفصائل، التي صارت مجموعة من المعارضات المتنافسة، حتى لا نقول المتصارعة على الزعامة والأحقية ومناطق النفوذ والمرجعية والهوية.
من بين مظاهر الخلل البنيوي الذي صاحب نشأة ثورة الحرية والكرامة، ورافقها طوال الوقت الطويل، كان افتقار المعارضة المتفرقة، بما فيها الائتلاف الوطني، الى اخ كبير عاقل وراشد، او قل تنظيماً مركزياً يُحسب لمواقفه الحساب، قوياً عدةً وعديداً وذا وزن مُرجّح في صنع القرار، مثل العمود الفقري في الظهر، الأول بين انداده في الصفين الثاني والثالث، له القول الفصل، الارجحية العسكرية، الدار السياسية الكبيرة، والموقف الذي يُؤخذ به ولو على مضض، حتى وان كان إشكالياً.
كما كانت الفصائل والقوى السياسية المعارضة، تفتقر ايضاً الى قائد ذي شخصية كاريزمية موثوقة وخلّاقة، موضع ثقة ومحل اجماع، قائداً عاماً بالتزكية، يختلف القادة الآخرون معه ولكن لا يختلفون عليه، ممثلاً اعلى للثورة ورمزاً لها في الداخل والخارج، لدية كامل نصاب الشرعية، ويحظى فوق ذلك بشعبية مكتسبة بالسيرة الذاتية النظيفة، ومعززة بالأداء القيادي الملهم، تماماً على نحو ما درجت عليه حركات التحرر الوطني والثورات الشعبية.
اخيراً وبعد طول عناء، وفشل سياسي شديد، نجحت الثورة السورية، وهي احدى اهم ثورات الربيع العربي المغدور، في إعادة انتاج نفسها على نحو أفضل، حين تعاضدت في معقلها الأخير في ادلب حول أكبر فصائلها المسلحة "هيئة تحرير الشام" التي اعدت للطاغية ما يلزم من رباط الخيل، الى ان تمكنت هي والقوى المتحالفة معها من دخول حلب، بضربة عسكرية خاطفة منظمة وفعّالة، لتصنع نقطة التحوّل النوعي الفارقة، وتواصل الزحف برشاقة نحو الجنوب، وتدخل العاصمة في نحو عشرة أيام هزت الشرق الأوسط، وقلبت توازناته.
لسنا في هذه المقاربة التأملية بصدد عقد مقارنة ظالمة، وكل المقارنات ظالمة، بين تجربتين مختلفتين، الفلسطينية والسورية، ولا بين قائدين شكلت شخصية كل منهما معطيات محلية وظروف موضوعية متباينة (ياسر عرفات واحمد الشرع) وانما هي السياقات والمألات والسمات المحتشدة في الذاكرة، تلك التي تحضر على عجل، راسمة كل هذا التماثل بين مسارين غير متطابقين، وزعيمين ليسا متشابهين بالضرورة، اجتازا، كل على انفراد، معمودية النار والحصار والملاحقات، وعبرا من الهامش الى المتن بأناة وتأوده وكفاءة، وحققا، بنجاح متفاوت، وخلال ازمنة مختلفة، إنجازات ترقى الى ضفاف المعجزات.
الحديث هنا ليس عن حركة فتح كبرى الفصائل الفلسطينية، ولا عن عرفات "الأخ القائد العام" رئيس الحركة ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، بل عن هيئة تحرير الشام ذات الخلفية الأصولية، والهوية السلفية الجهادية، المصنفة إرهابية، المتحوّلة عن ارثها القاعدي المثقل بالنعف المفرط، وعن نزعتها الظلامية، الى وضعية الأخ الأكبر، التي ميّزت "فتح" الفلسطينية بين شقيقاتها، حيث بدت "الهيئة" قائدة بلا منازع لها على مركز صناعة القرار، صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، بعد ان خلعت بصعوبة جلباب ابيها، وحملت عبء المسؤولية.
كما بدا احمد الشرع، وقد صار بدوره الأخ القائد العام، او ما يوازي ذلك، على غير الصورة النمطية السائدة عنه، سيما عندما دخل دمشق وأسقط حكم آل الأسد، وبات الرجل القوي في الشام، القائد المنتصر، الآمر الناهي، البراغماتي المتسامح مثل كل منتصر، وهو ابن النازح من الجولان (الجولاني) الذي غيّرته التجربة، بدّلته الحقائق القاسية، وبدلت خطابه وصورته وحساباته ومشروعه (الامبريالية الإسلامية المجاهدة) خاصة حين اعتلى منبر المسجد الاموي وقال كلاماً حسناً، مثلما فعل جمال عبد الناصر، عندما اعتلى منبر الجامع الازهر، ابان العدوان الثلاثي، وقال قولته المأثورة "حنحارب"، وبالمثل، حين قعد ابن النازح الفقير على كرسي الأسد المُصدّف، بربطة عنق انيقة وقيافة أوروبية كاملة، كرجل دولة مدنية حديثة (سوريا الجديدة).
إزاء ذلك، يجوز القول بشيء من التحفظ، وبروح مفعمة بالتشاؤل، ان احمد الشرع نسخة معدّلة قليلاً عن ياسر عرفات في شبابه، وطبعة منقّحة ومزيدة كثيراً عن سيرة ومسار ذاك الفدائي اللاجئ، الذي غيّر واقعاُ مزرياً وصنع تاريخاً جديداً.