عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Nov-2024

هل يتجه "حزب الله" نحو الداخل؟

 الغد

مايكل يونغ* - (مالكوم-كير كارنيغي للشرق الأوسط) 2024/10/25
ثمة ادعاء بأن "حزب الله" يسعى إلى إعادة بناء قدراته العسكرية في مناطق غير شيعية، لكن الكلام أسهل من الفعل.
 
يشاهد اللبنانيون برعب إسرائيل وهي تواصل التدمير الممنهج للبلدات والقرى والأحياء في المناطق ذات الغالبية الشيعية في ضاحية بيروت الجنوبية والجنوب والبقاع، ويفكرون في الوقت نفسه في التداعيات الديموغرافية التي قد تنجم عن ذلك عند انتهاء الصراع.
 
 
وقد استغل خصوم "حزب الله" هذا الأمر لبث حالة من الهلع داخل المجتمع اللبناني. وزعم شيخ شيعي معارض للحزب في إطلالة تلفزيونية بأن "حزب الله" سيحاول، بعد الدمار الذي لحق بمناطق التركز الديموغرافي الشيعي، إعادة بناء قدراته العسكرية في مناطق غير شيعية في لبنان. وهذه مسألة تثير قلقا بالغا في نفوس الكثير من اللبنانيين لأنها تفسح المجال أمام احتمال اندلاع حرب أهلية. ولكن، قبل حمل سلاحنا أو حزم حقائبنا، فلنفكك هذه الفكرة قليلا.
ربما يكون من الصحيح افتراض أن قيادة "حزب الله" وإيران تحضران في الوقت الراهن خطة بديلة للصمود وإعادة بناء قدرات الحزب. لكن من الصحيح أيضا أن استراتيجية إسرائيل تهدف إلى ضمان أن يتم عزل الشيعة، أو بالأحرى أنصار الحزب داخل المجتمع الشيعي، في لبنان، وأن يصبح وجودهم في المناطق غير التابعة للحزب مصدر تهديد. وهكذا، يحدث الإسرائيليون شرخا بين النازحين الشيعة في معظمهم وسائر فئات المجتمع اللبناني، ويتفاقم هذا الوضع بالمطالب المتنامية في أوساط غالبية اللبنانيين بأن يوقف الحزب حربه مع إسرائيل. لكن ما يراه اللبنانيون فعليا هو رغبة "حزب الله" في خوض الصراع إلى أجل غير مسمى، محاولا الحفاظ على بقائه سياسيا وعسكريا، بدعم من حلفائه الإيرانيين.
على هذه الخلفية لا بد من التساؤل: هل بإمكان "حزب الله" مواصلة حربه وسط عداء غالبية قسم كبير من اللبنانيين الذين، حتى لو أنهم لا يكنون أي تعاطف مع إسرائيل، لا يرون فائدة تجنى من هذه المذابح العبثية، في حين تعاني الطائفة الشيعية من عواقب الصراع المريرة؟ قد يرد البعض بالإيجاب، ويقولون إن الحزب لا يكترث لرأي أبناء وطنه وأن بقاءه والأولويات الإيرانية سيظلان دائما أهم من أي استياء يعبر عنه محليا. قد يكون هذا صحيحا، لكنه يعني أن يسمح الحزب لإسرائيل بالإمعان في تدمير بيئته الاجتماعية والاقتصادية التي لطالما كانت جوهر استقلاليته وقوته. ومن المستبعد جدا أن يتمكن الحزب من إعادة تشكيل ذلك في مناطق غير شيعية، على الأقل من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوب صراع أهلي قد يغرق الحزب في حروب مصغرة متعددة.
تطرق أحد حلفاء "حزب الله" إلى نقطة ذات صلة في العام 2020، حين ألمح إلى أن استجابة الحزب للانهيار المالي في لبنان لم تكن كافية. وحذر أنيس النقاش في مقابلة أجرتها معه "قناة الميادين" من أن الانخراط في المقاومة ينطوي على ما هو أكثر من العمليات العسكرية، إذ تعين على الحزب التفكير في تداعيات الأزمة الاقتصادية. وعلل ذلك بقوله "إن الأمن القومي والوطني ليس محصورا بالسلاح وبالدفاع بالسلاح. إن تعريفه... يبدأ بالتعليم والاقتصاد والزراعة والصحة. والعمل العسكري جزء أساسي منه ولكنه لا يكفي للدفاع عن الوطن".
أشار النقاش إلى أن قوة "حزب الله" يجب أن تنبع من قدرته على تشكيل قاعدة دعم على جبهات كثيرة وإحاطة نفسه بمجتمع له مصلحة في الدفاع عن حزب المقاومة ومؤسساته. لكن من الصائب أيضا أن المجتمع المحيط بـ"حزب الله" يجب أن يمتلك الوسائل اللازمة لمساندة الحزب ماليا ومعنويا وسياسيا وتزويده بالقوة البشرية.
ولكن، هل ما يزال هذا ممكنا اليوم؟ سيحافظ الحزب على ولاء طائفته في المستقبل المنظور، وسيترسخ هذا الشعور إذا لقي وجود النازحين الشيعة مقاومة في مختلف أنحاء لبنان، ما من شأنه تعزيز العصبية الطائفية. لكن الولاء يحمل أيضا نصيبه من المسؤولية. فقد تعرضت بيئة "حزب الله" الحاضنة للدمار والإفقار، وبات عليه الآن أن يرعاها، ومن المتوقع أن يفعل ذلك. لذلك، سيبقى المجتمع الشيعي عبئا كبيرا يثقل كاهل "حزب الله" في السنوات المقبلة، وهو ما من شأنه جعل الجهود التي يبذلها الحزب لإعادة تشكيل قدراته العسكرية أصعب بكثير، ولا سيما في المناطق المعادية له.
علاوة على ذلك، اقترف "حزب الله" أخطاء فادحة في الماضي من خلال انتهاك الكثير من الأعراف في العقد الاجتماعي الطائفي اللبناني. فقد اتهم بالضلوع في اغتيال شخصية سنية كبرى هي رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ونشر عناصره في سورية للقتال دفاعا عن نظام عارضه الكثير من السنة، من أجل حماية المصالح الاستراتيجية لإيران الشيعية. كما يحمله الكثير من المسيحيين مسؤولية انفجار مرفأ بيروت، قبل أن يقتحم عناصره منطقة الطيونة المسيحية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 لتقويض التحقيق في هذا الانفجار. إضافة إلى ذلك، حاول الحزب فرض مرشحه المسيحي الماروني لرئاسة الجمهورية، خلافا لإرادة الغالبية العظمى من المسيحيين. وهكذا أثار الحزب مشاعر استياء في مناسبات عدة، ومن الطبيعي أن يتوقع حدوث ردود فعل قوية على أجندته، ربما من خلال حمل السلاح.
ولكن، لنفترض نشوب صراع طائفي يغرق لبنان مجددا في حرب يخوضها "حزب الله" ضد مجموعة من الطوائف. هل ستسمح إيران للحزب بالوقوع في هذا الفخ؟ إن تجربة منظمة التحرير الفلسطينية غنية بالعبر. فقد أدى انجرارها إلى براثن الحرب الأهلية في العام 1975 إلى إضعافها وتشتيت قواها. وقد تورطت في الخصومات المحمومة بين القوى الإقليمية، ما استتبع بداية التدخل العسكري السوري في العام 1976، قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 لطرد الفلسطينيين من البلاد. يشار إلى أن منظمة التحرير أبدت ندمها لاحقا على انخراطها في الحرب، وقدمت اعتذارا علنيا إلى اللبنانيين عن أي ضرر ألحقته بهم.
في حال اندلاع حرب أهلية جديدة في لبنان، من المؤكد أن الكثير من الدول ستتدخل لمساندة أعداء "حزب الله"، وليس أقلها إسرائيل، للمساعدة في إلحاق الهزيمة بالحزب. ولا شك أن لبنان سيدمر، وسيخسر الجميع، لكن إيران لن تكون راضية عن النتيجة بشكل خاص. لذلك، من الصعب تصور أن القادة في طهران سيعطون "حزب الله" الضوء الأخضر لاتخاذ خطوات من شأنها إشعال فتيل صراع طائفي سيلحق مزيدا من الخراب بمجتمع شيعي تكبد أساسا أضرارا جسيمة.
في غضون ذلك، قد لا تكون إيران قادرة على تقديم الكثير من المساعدة لـ"حزب الله" ومناصريه. فإعادة تسليح الحزب بالتزامن مع إعادة إعمار المناطق الشيعية ستكلفانها مليارات عدة من الدولارات قد لا تستطيع تأمينها في ظل الضائقة الاقتصادية التي يشهدها الاقتصاد الإيراني. والأهم، على المسؤولين في طهران أن يتساءلوا عما إذا كان الاستثمار الكبير في "حزب الله" مجددا أمرا يستحق العناء حقا اليوم. لم يعد الحزب قادرا على جر مجتمع الشيعية إلى محنة جديدة من الموت والدمار، بالنظر إلى تضاؤل قدراته العسكرية ربما لعقود من الزمن. وينطبق الوضع نفسه تقريبا على حركة "حماس" في غزة. هذا الواقع يفرض على الإيرانيين إجراء تقييم موضوعي لاستراتيجية "وحدة الساحات" الكارثية التي يتبعونها، وما إذا كانت جديرة بالإنقاذ.
تتبادر إلى الذهن هنا فكرتان. في حال نشوب حرب أهلية متعددة الجبهات، هل سيكون "حزب الله" في موقع يمنحه أفضلية؟ إن الانتشار الجغرافي للطائفة الشيعية اليوم يجعلها عرضة للتهديدات. فثمة مناطق ثلاث يتركز فيها الشيعة وهي جنوب لبنان، والبقاع الجنوبي والشمالي، والضاحية الجنوبية لبيروت. وفي أفضل الأحوال، سيكون من الصعب الربط بينها في زمن النزاع، لأن المناطق التي تصلها ببعضها تقع ضمن دوائر نفوذ الطوائف الأخرى. ولكن إذا حاول "حزب الله"، كما يدعي بعض مروجي الذعر، ترسيخ وجود له في مناطق غير شيعية لا يملك فيها حاضنة اجتماعية، فسيكون من الأصعب عليه بكثير خوض حرب، وتحديدا حرب يعتبر أعداؤه أنها تنطوي على عواقب وجودية.
وتخطر في البال فكرة ثانية أيضا. ماذا عن الجيش اللبناني؟ إننا نميل إلى نسيان أن في البلاد قوة مسلحة قادرة على لجم الاضطرابات إذا لزم الأمر، بل إنها مستعدة حتى للتدخل واستخدام قوتها النارية عند الضرورة للحفاظ على السلم الأهلي. وهذا تحديدا ما فعلته خلال حادثة الطيونة، عندما منعت مسلحي "حزب الله" وحركة أمل من التوغل في الأحياء ذات الغالبية المسيحية. ولا شك أن الجيش يدرك اليوم أنه أقرب ما يكون، منذ نهاية الحرب الأهلية في العام 1990، إلى فرض سلطة الدولة (مهما كانت قاصرة) على المجتمع.
تلوح في أفق لبنان مشقات كثيرة تضاف إلى المصاعب الجمة التي واجهها خلال السنوات الخمس الماضية. قلة هي الدول التي اضطرت إلى تحمل هذا الكم من الأزمات في مثل هذه المدة القصيرة. لكن قصة التخويف الأخيرة من أن "حزب الله" يعيد تشكيل نفسه في المناطق غير الشيعية تبسط، على نحو مضلل، مخططا بالغ التعقيد. خلال السنوات المقبلة، سوف يصطدم "حزب الله"، في أفضل الأحوال، بجبل من التحديات الذي يتعين عليه تسلقه. ومن غير المرجح أنه يرغب في النهوض بهذه المهمة وهو في حالة حرب مع سائر أقطاب المجتمع اللبناني.
 
*مايكل يونغ: مدير تحرير في "مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط" في بيروت، ومحرر مدونة "ديوان" في كارنيغي المعنية بشؤون الشرق الأوسط. كان سابقا كاتبا ومحرر صفحة الرأي في صحيفة "ديلي ستار" اللبنانية، وينشر راهنا مقالا أسبوعيا في كل من صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتية، وفي الموقع الإلكتروني "ناو ليبانون". وهو أيضا مؤلف كتاب "أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن نضال لبنان من أجل البقاء" The Ghosts of Martyrs Square: An Eyewitness Account of Lebanon’s Life Struggle، الذي أدرجته صحيفة "وول ستريت جورنال" ضمن قائمة الكتب العشرة الأبرز للعام 2010، وحاز الجائزة الفضية في مسابقة "جائزة الكتاب للعام 2010" التي نظمها "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى".