إحياء روح الجامعة: رؤية جديدة لمستقبل التعليم العالي*أ.د. هاني الضمور
الراي
في عالم يتسارع فيه كل شيء، من التكنولوجيا إلى الاقتصاد، بدا أن التعليم العالي – الذي لطالما كان قلب الحراك الثقافي والفكري – قد انحرف عن مساره الأصلي. من مؤسسة تنشئ العقول وتفتح الأفق، إلى منشأة شبه تجارية تتنافس على تقديم الشهادات بسرعة وكفاءة، وكأنها خط إنتاج مصمم لتلبية الطلب، لا لتشكيل الإنسان.
لقد حضرت قبل نحو خمسة عشر عامًا مؤتمرًا عالميًا في إسبانيا ناقش مستقبل جودة التعليم العالي. وكان السؤال المطروح وقتها مثيرًا للقلق: هل جودة التعليم العالمي في تراجع، أم أننا فقط نعيد تعريفها؟.
لكن الأجوبة جاءت أكثر جرأة: التعليم لم يضعف فحسب، بل فقد بوصلته.
الورقة العلمية التي عُرضت آنذاك تحدثت بوضوح عن ظاهرة “تعليب التعليم” – وهي تعني اختزال التجربة الجامعية إلى برامج مختصرة، ومناهج مُبسطة، وأهداف محصورة في تأهيل سريع لسوق العمل. واللافت أن هذه الظاهرة لا تقتصر على دول الجنوب، بل اجتاحت حتى كبريات جامعات الشمال. العالم كله – متقدمًا كان أو ناميًا – دخل لعبة “الكم على حساب الكيف”.
ومع تضاعف أعداد الطلاب، ظلت نسبة المبدعين والمفكرين شبه ثابتة. هذه ليست صدفة، بل إشارة حمراء في لوحة القيادة الأكاديمية. نحن نُنتج خريجين أكثر، نعم، لكننا لا ننتج تفكيرًا أعمق، ولا نوسّع قدرة الإنسان على الإبداع أو مساءلة الواقع. هل فقدت الجامعة روحها؟ ربما.
لكننا اليوم لسنا أمام كارثة حتمية، بل أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف ما تعنيه الجامعة، وما يجب أن تكون عليه.
الوقت قد حان لإحياء روح الجامعة، تلك التي وُلدت قبل قرون لتكون فضاء حرًا للفكر، لا مجرد محطة عبور نحو سوق العمل. هذه ليست دعوة للحنين، بل رؤية استراتيجية لمستقبل أكثر استدامة وعمقًا.
نحن بحاجة إلى تعليم لا يكتفي بتلقين المهارات، بل يزرع القدرة على السؤال، والتحليل، والتخيل. نحتاج إلى جامعة لا تخشى الفلسفة، ولا تهمّش الإنسانيات، ولا تخجل من طرح الأسئلة الكبرى. نحتاج إلى أن تعود الجامعة مكانًا يولد فيه المفكر كما يولد فيه المهندس، ويُصاغ فيه مشروع الإنسان، لا فقط مشروع الموظف.
هذا لن يتحقق دون شجاعة سياسية وأكاديمية. يجب أن تتحرر الجامعات من قبضة منطق السوق، وتُمنح استقلالًا حقيقيًا في رسم رؤيتها. ويجب أن يُعاد بناء العلاقة بين البحث العلمي والتنمية المجتمعية، لا أن يُترك العلم حبيسًا في مجلات لا يقرؤها أحد.
إحياء روح الجامعة ليس ترفًا نخبويًا، بل ضرورة عالمية. نحن لا نواجه فقط أزمة في التعليم، بل أزمة في صناعة المستقبل ذاته. إذا أردنا عالَمًا أكثر إنصافًا، ووعيًا، وقدرة على مواجهة التحديات الكبرى، من المناخ إلى الذكاء الاصطناعي، فإن الجامعة يجب أن تستعيد دورها كمحرّك للفكر لا كملحق بالسوق.
ربما تأخرنا كثيرًا، لكن الأوان لم يفُت بعد. فالجامعات التي تبادر اليوم بإعادة بناء روحها، ستكون غدًا هي المصدر الحقيقي لقادة المستقبل، لا مجرد مورد للوظائف.