الدستور
فعلت ما اعتقدت أنه واجب – ديك تشيني.
بسببه قُتل أكثر من خمسة ملايين إنسان، وهجّر أكثر من ثمانيةٍ وثلاثين مليونًا من ديارهم، في ما سُمّي زورًا بـ«الحرب على الإرهاب». والآن يرحل المسؤول الأول عن تلك الجرائم بهدوءٍ وسط عائلته، بعدما توقّف قلبه؛ وكنت أظنه بلا قلب. ولو أن في هذه الدنيا عدالة، لكان الأجدر به أن يرحل وحيدًا في زنزانةٍ باردةٍ معزولة.
رحل ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، الذي ارتدى عباءة الرئيس فعليًا، فكان هو الحاكم الحقيقي من وراء الستار. يُعدّ تشيني المهندس الأول لاتساع النزعة الحربية والعسكرية الأمريكية، وأحد أكثر المجرمين تعطشًا للدماء في التاريخ الحديث. ألقى بظلاله الثقيلة على واحدةٍ من أحلك مراحل البشرية، تاركًا وراءه وصمة عارٍ لا تُمحى من جبين الإنسان.
كان تشيني من أبرز العقول المحرّكة لمشروع «القرن الأمريكي الجديد»، الذي وضع الأساس لفكرة أن على الولايات المتحدة أن تكون القوة الوحيدة المهيمنة في العالم، تقود نظامًا أحاديّ القطب تملي من خلاله على سائر الدول إرادتها بالضغط الاقتصادي والقوة العسكرية. وما زال هذا النهج قائمًا حتى اليوم، إذ لم تتوقف أمريكا منذ ذلك الحين عن خوض الحروب وإشعال النزاعات.
جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لتمنحه الفرصة الذهبية لتنفيذ أجندته. فتصاعد نفوذه في إدارة بوش إلى مستويات غير مسبوقة، وكان هو من صاغ مفهوم «الجانب المظلم» الذي منح أجهزة الاستخبارات صلاحياتٍ واسعة للتجسس على المواطنين واستخدام التعذيب في أفغانستان والعراق.
وهو أول من روّج لكذبة امتلاك العراق أسلحة دمارٍ شامل لغزوها، وزعم أن إسقاط الرئيس صدام حسين ضرورة للأمن القومي الأمريكي، بينما كانت عينه في الحقيقة على نفط العراق. في الوقت ذاته، كانت شركته «هاليبرتون» تحصد أرباحًا خيالية من الحرب، وتحصل على عطاءات ضخمة هناك، ليغادر بعدها بثروةٍ تُقدّر بمئةٍ وخمسين مليون دولار.
وعندما شكّك أحد كبار موظفيه، جوزيف ويلسون، علنًا في روايته عن العراق، ردّ تشيني بانتقامٍ خفيّ تمثّل في تسريب هوية زوجته فاليري بليم، العميلة السرّية في وكالة الاستخبارات المركزية، ما أنهى مسيرتها المهنية. لاحقًا، أُدين لويس ليبي، بعرقلة سير العدالة والإدلاء بشهادة زور، قبل أن يمنحه ترامب عفوًا رئاسيًا.
وكان تشيني هو من يقف وراء تعيين بول بريمر مبعوثًا خاصًا للرئيس بوش في العراق بعد احتلاله، حيث نفّذ الأخير أجندة المحافظين الجدد بحذافيرها؛ فخصخص الشركات الحكومية وألغى قرار تأميم النفط الذي استمر منذ عام 1972، مانحًا شركات النفط العالمية امتيازاتٍ واسعة للتنقيب والاستثمار. فكافأ تشيني حين وضع النفط تحت يديه. وقد خلص تقريرٌ لشبكة «سي إن إن» عام 2003 إلى أن الحرب على العراق كانت من أجل النفط، وأن الرابحين الحقيقيين منها هم شركات النفط الكبرى.
وأثبت التاريخ لاحقًا أن جميع ادعاءات تشيني التي برّر بها الحرب كانت كاذبة؛ فلم يُعثر على أي سلاحٍ من أسلحة الدمار الشامل، بينما قضى ملايين الأطفال والنساء بسببه، وقُتل آلاف الجنود الأمريكيين دفاعًا عن مصالح النخب والصهاينة في حربٍ عبثية لا مبرر لها. وهكذا غدا تشيني إحدى أكثر الشخصيات إثارةً للجدل في التاريخ الأمريكي الحديث.
مات تشيني، لكن إرثه لم يمت. فالأيديولوجيا القائمة على الهيمنة والعسكرة التي زرعها لا تزال تحكم سياسات القوة اليوم. رحل جسده، لكنه خلّف وراءه جيلًا من الوحوش التي تواصل تنفيذ أجنداته القائمة على القتل والاستبداد والجشع. ولعل الحرب على غزة الأخيرة أصدق شاهدٍ على أن فكره لم يُدفن معه.
لا عزاء في موت تشيني، فجرائمه أفظع من أن تستوعبها نار، تمامًا كما هو حال نتن ياهو ومن سار على دربه.