الدستور
لا يوجد تعريف نهائي وكوني للتنوير. فالتنوير من حيث هو مقاربة وعي، لردم الفجوة بين الإنسان والطبيعة، يتركز على تحرير الإنسان من التضليل. فهو حركة مستمرة ومتصاعدة لتحمي الإنسان من التغريب عن حياته، واستجابة متطورة، لمواجهة أشكال التضليل المتطورة أيضاً.
فكل ما يعاد انتاجه عبر الفعل الإنساني ليس كينونة مادية، بل نموذج تصوري لفعل ممكن، ومنهج تفكير وآلية عمل. وكل ما لا وجود عياني له خارج الفعل الإنساني، (ليس له كينونة يمكن افتراض وجودها في غياب الإنسان وفعله)، هو تعين تاريخي زماني مكاني. فالتنوير من حيث هو موقف أخلاقي ومعرفي، منتج تاريخي، يهدف إلى مواجهة أشكال التضليل، التي تغرب الإنسان عن حياته.
لقد بدأ تعبير التنوير يتطور ويتم استخدامه منذ الثورة العلمية في القرن السابع عشر. وفي عام 1783، قدم «فريدريك زولنر» أحد وزراء حكومة بروسيا سؤال ما هو التنوير؟ وذلك في سياق التفاعل مع الحوار حول دور السلطة السياسية وسلطة الكنيسة ورجال الدين في الحياة المدنية للأفراد.
جاءت اجابة الفيلسوف «إيمانويل كانت»، لتؤسس مفهوماً «أخلاقياً كونياً» للتنوير. فبدأت الفقرة الأولى بتعريف غياب التنوير: «عدم الرشد –المفروض ذاتياً». وتلخص سبب غياب التنوير، بالخوف من أن يفكر المرء لنفسه. فمنح التنوير بذلك، مضموناً سلوكياً، وهو «انعتاق الإنسان من القيود التي يفرضها على نفسه وتمنع (رشده)». فالتنوير «انعتاق»، من قيود «عدم الرشد» التي يفرضها الإنسان على نفسه. وهذا «الانعتاق»، لا يعيقه نقص الوعي والمعرفة، بل يعيقه «الخوف»، من أن يفكر الفرد لنفسه. فالتنوير مرتبط بالرشد العقلي والمعنوي، «قدرة الإنسان أن يفكر لنفسه دون أن يقوده أو يوجهه احد». وهذه مشروطه بــ»شجاعة الإنسان لأن يكون يكون حكيماً». فالمقاربة الاخلاقية للتنوير، تتطلب كلاً من الشجاعة والحكمة، ليتحرر الإنسان من قيود عدم الرشد التي فرضها على نفسه. وبالرغم من أن قيود عدم الرشد «المفروضة ذاتياّ» تبدو غير مختلفة عبر الزمان والمكان، ولكن الذي يستغلها وينشئها له خصائص وأدوات تضليل مختلفة، وله أيضاً خطاب مختلف. فالذي قيد نفسه بعدم الرشد، لا يتحكم بمن يتسلم الطرف الآخر من القيد. ففي ألمانيا في القرن الثامن عشر، كانت الأزمة حول علاقة الكنيسة والدولة بالحريات الفردية، ولكنها الآن- في العالم العربي- التحدي مختلف.
عقبات التنوير في القرن الثامن عشر، مضت وانقضى منها الكثير، وقل المعنيون بها. ولكن معياره ما زال يراوح في كفتي ميزان التاريخ: الشجاعة لأن يرتقي الإنسان لمستوى حكمته. لهذا فإن إجابة الفيلسوف «كانت» بأن عصره ليس «عصراً مستنيراً»، ولكنه «عصر التنوير» إجابة صحيحة لكل العصور. فلا يوجد عصر يكتمل فيه النور، ولا بد من السعي الشجاع والدؤوب حول المزيد من النور الذي لن يكتمل. فلا يوجد زمان مكتمل التنوير، فكل العصور هي عصور «للتنوير المستمر»، ولن تنتهي هذه المسيرة، وليس المطلوب انهائها، ولكن المطلوب ضمان استمرارها، بكلفة تحتملها الشعوب والمجتمعات. فلا يوجد للتنوير خصم واحد ولا منجز واحد، هو موقف أخلاقي فكري، متجدد، لضمان رشد الإنسان، عبر تحليه بشجاعة احتمال الحكمة.
تنويرية «كانت»، حددت ممكنات إنسانية، وأوصت بثنائية «الشجاعة والحكمة» لتحقيقها. ولكن تجدد التضليل، يتطلب ديمومة الشجاعة لتجديد الحكمة والعيش الدائم مع مخاطرها. فليس مطلوباً اجتياز «محدودية الإنسان» مرة واحدة بفعل خارق «للإنسان المتفوق» المتحرر من القيود، ولكن المطلوب هو إدراك «القيود الجديدة» وإدامة الموقف الرافض للخضوع لها، والبحث عن «ممكنات جديدة» للانعتاق منها، وتحقيق حلم سعيد عقل بجعل «أجمل التاريخ... غدا».