عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Oct-2025

السؤال المعطل: كيف خسرنا وعي القضية؟*سائد كراجة

 الغد

عندما يُختزل النقاش حول «عملية الطوفان» في سؤال: هل أنت مع حماس أم ضدها؟ يفقد الحوار معناه ويتحوّل من فهم الحدث إلى اصطفافٍ حوله. فبدلاً من أن يكون السؤال أداة لتحليل الموقف واستيعاب أبعاده، يتحول إلى معيار لقياس الانتماء أو الولاء. وبالتالي، يتوارى التفكير العميق خلف التمسك بالهوية.
 
ورفض هذا الاصطفاف لا يعني حيادًا تجاه العدوان. فالموقف من الاحتلال محسوم: هو أصل الجريمة، هو يعد الجذر الأساسي للجريمة، والمقاومة تظل حقًا مشروعًا حيث انها تدافع عن الإنسان والأرض والكرامة. لكن الفارق هو في الوعي بالمقاومة؛ فالدفاع المشروع لا يتحقق بالانفعال، بل ببناء وعيٍ يحوّل التعاطف إلى مشروعٍ وطني منظم يُنقذ البطولة من الاستنزاف.
عملية الطوفان أحدثت تغييرًا جذريًا في معادلة الصراع. فقد تمكنت من اختراق البنية العميقة للمجتمعات في أوروبا والولايات المتحدة، وأسهمت في تغيير المزاج الغربي الذي كان ينظر إلى إسرائيل على أنها الضحية المستمرة، وكشفت أن الوعي الغربي نفسه قابل للمراجعة حين تُعرض عليه الحقيقة مجردة من هيمنة الإعلام. ولأول مرة تفقد إسرائيل موقعها الأخلاقي في الوعي الأوروبي وينكشف وجهها الاستعماري أمام الرأي العام العالمي. وُصفت العملية بأنها مجازفة، لكن الشعوب الحرة لا تُعاب بتقديم الضحايا، بل تفخر بتضحياتها ما دامت في طريق التحرر.
غير أن الطوفان، هو ذلك الزلزال الذي أعاد قضية فلسطين إلى واجهة الوعي العالمي، كشف بوضوح حجم الثمن الإنساني الفادح. ما دامت في طريق التحرير. فلو كان السبعين ألف غزي الذين قضوا من المقاتلين، لكان دمى القلب وارتفع ارتفع الفخر. فالمشكلة ليست في الثمن، بل في طبيعة الحرب التي تحوّلت إلى إبادةٍ جماعية ضد المدنيين العزل والأطفال، حربٍ شاركت فيها واشنطن سياسيًا وعسكريًا، وساعد في تغطيتها صمتُ العواصم العربية الخاضعة لإرادتها. المأساة ليست في الدم وحده، بل في التواطؤ الذي جعل من غزة ميدان اختبارٍ أخلاقي للعالم.
واستمرارًا في حرب الإبادة، جاءت خطابات ترامب ونتنياهو أمام الكنيست هذا الأسبوع لتكرّسا مرحلةً جديدة من الإنكار الممنهج للحق الفلسطيني.  فترامب، الذي لم يذكر لا الدولة الفلسطينية ولا الشعب الفلسطيني، قدّم عرضًا يقوم على إنكارٍ مدروس للواقع، كأنه يصف سلامًا تحقق وانتهى، متجاهلًا بأن ما جرى كان حرب إبادة لا صفقة سلام. أما نتنياهو فحوّل الحرب إلى ملحمة تمجيدٍ وطني، متباهياً بانتصار يقوم على طمس حدوث الإبادة. فكلا الموقفين لا يخرج عن السياق الاستعماري، بل يمثلان جوهره بوضوح: رؤية تنكر وجود الفلسطيني أصلاً، وتتعامل مع الأرض باعتبارها غنيمة وليس وطنا.
لقد تمكن هذا المشهد من أن يفرض نفسه لأن العالم العربي يعيش انكفاءً استراتيجيًا غير مسبوق. لم يكن تخلي الأنظمة عن المقاومة خذلانًا لنفسها ولنضال الشعب الفلسطيني، الذي كان جوهرَ الشرعية السياسية لعقود. ومع ارتهان العواصم العربية للأمن الأميركي وصفقات السلاح، تراجع القرار المستقل حتى صار الموقف من فلسطين يُحدَّد بحدود المصالح الأميركية لا بمصالح الشعوب العربية.
إن استعادة وعي القضية لا يعني استعادة الجغرافيا وحدها، بل استعادة الفكرة التي يمكن أن توحّد الأمة حول مشروعٍ حضاريٍّ جديد. فالقضية الفلسطينية ليست شأنًا محليًا أو نزاعًا حدوديًا، بل هي مرآة لوعيٍ عربيٍّ يبحث عن ذاته. ومشروع التحرير الحقيقي هو مشروع نهضةٍ شاملة يتجاوز الانقسام المذهبي والعرقي، ويصون الدين من التوظيف السياسي دون أن يعادي التدين. هو مشروعٌ مدنيٌّ منفتح قادر على أن يحتضن الجميع معًا، ويحتفي بالتنوّع لا بالخوف منه، ويؤمن بأن التعدد مصدرُ غنى لا تهديد.
طريق الوعي ينطلق من التعليم، احترام حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون، إلى جانب إرساء ديمقراطية فعلية تجعل من الحكم ترجمة حقيقية لإرادة الشعب بعيدًا عن أي شكل من أشكال الوصاية عليهم.. وعلى هذا الأساس يمكن للعالم العربي أن يستعيد توازنه الحضاري، بتكاملٍ اقتصادي وثقافي يستقل عن قوى الهيمنة ويعاملها بندّيةٍ وشراكةٍ قائمةٍ على المصالح والكرامة. فالقضية التي تبدأ من فلسطين يمكن أن تنتهي بإعادة تعريف الوطن العربي كله، لا كجغرافيا مثقلة بالصراعات، بل كحلمٍ إنسانيٍّ مفتوحٍ على العدل والحرية. وإن غدًا لصانعه قريب جنابك.