الغد
اتفاق الهدنة المنتظر طويلاً في غزة يجب أن يُنظر إليه على أنه نتاج لظروف موضوعية، أهمها ربما التقاء المصالح بين الإدارتين الأميركيتين: إدارة بايدن المغادرة للبيت الأبيض، التي ترغب مع اليوم الأخير لها في إنجاز الهدنة، وإدارة ترامب الراغبة بتدشين دخول الرئيس بإنجاز نوعي في ملف غزة. هذا الالتقاء، الذي أنتج ضغوطاً كان من الصعب على كل الأطراف مقاومتها، جعل مسألة الهدنة ممكنة. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن اعتبار هذا الاتفاق المرحلي نهاية للأزمة التي بدأت في غزة وامتدت إلى الإقليم بشكل كامل. ومع ذلك، يمكن، على الأقل على الصعيد الإنساني، أن يُحدث انفراجة مهمة في قطاع غزة.
في الوقت نفسه، ومع إتمام تنصيب الرئيس ترامب، وهو الذي يُنسب إليه عملياً إنجاز هذا الاتفاق، يمكن أن تدفع إسرائيل باتجاه التعامل مع كثير من الملفات العالقة، خصوصاً تلك المرتبطة بمسألة الأمن وجبهات التهديد. هنا يمكن النظر إلى خطوة قبول نتنياهو اتفاق الهدنة في غزة على أنها تفتح الباب لمسألتين:
المسألة الأولى داخلية: ترتبط بحكومته وتحالفاته الداخلية، وما يمكن أن يقدمه نتنياهو لسموترتش من تنازلات مقابل القبول بالمرحلة الأولى من الاتفاق، خصوصاً مع استقالة بن غفير. هذا يعني أن تنازلات مُرضية لسموترتش قد تُقدّم في المسألة التي ارتبط بها وأشرف عليها مؤخراً، وهي الضفة الغربية والإعلان الرسمي عن ضم بعض أراضيها.
المسألة الثانية أميركية، فسيسعى نتنياهو إلى فتح الملفات العالقة المرتبطة بالعراق وإيران واليمن، التي تمثل أولوية بالنسبة له. وقد تبدأ المرحلة الأولى في العلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة بأهداف مشتركة. التنازلات التي تُسوق اليوم على أنها أجبرت إسرائيل على قبول اتفاق الهدنة تمنح نتنياهو مساحة كبيرة للضغط لتحقيق تقدم في جبهات أخرى. خصوصاً أن إدارة ترامب، التي تسعى لتقديم نفسها كإدارة لوقف الصراع وبناء السلام، ترفع شعار السلام الإقليمي، الذي يتطلب في النهاية حسم القضايا الأمنية العالقة، وأهمها النفوذ الإيراني في المنطقة، أو ما تبقى منه من العراق إلى اليمن وحتى الداخل الإيراني.
أما بالنسبة لحركة حماس، فالمعركة القادمة ستكون سياسية بامتياز على كافة المستويات: الفلسطيني الداخلي، العربي، وحتى الدولي. ويتطلب ذلك من الحركة البدء بالتفكير الجدي في تبني سياسات أكثر براغماتية، والبحث عن حلول لتجنب الاستهداف في المراحل القادمة. فالمنهجية التي كانت سائدة خلال المفاوضات لا يمكن أن تكون صالحة لمرحلة ما بعد المفاوضات. تحديات إنجاز الهدنة، رغم أهميتها، لا تقارن بالتحديات الداخلية التي تواجه الجميع في غزة. يجب أن تدفع هذه المرحلة الحركة إلى إجراء مراجعات داخلية حقيقية، ليس فقط في النهج والأسلوب والأشخاص الذين تصدروا المشهد في المرحلة السابقة، بل أيضاً في طبيعة العلاقات مع الدول العربية والدور الذي يمكن أن تلعبه مستقبلاً. خاصة أن مسألة تدويل قطاع غزة باتت أمراً حتمياً، تبدأ بالإغاثة الإنسانية والدور الدولي، وتمتد لاحقاً إلى الملف الأكبر: إعادة البناء والإشراف على المشهد الداخلي الغزّاوي، بما في ذلك الحدود والمعابر.
كما هو الحال في الاتفاق مع لبنان، يبدو اتفاق غزة مقبولاً في مرحلته الأولى. لكنه، بلا شك، أكثر هشاشة في المراحل اللاحقة، خاصة مع تعارض بعض نقاطه مع السطوة الأمنية التي ترغب إسرائيل في الإبقاء عليها. وتشمل هذه السطوة مسائل الأمن والمراقبة والإشراف على المعابر، وحق القيام بعمليات تستهدف كل ما تعتبره إسرائيل تهديداً لأمنها.