عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Apr-2025

الغرب ليس أعمى، لكنه لا يستطيع أن يرى‏

 الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة

بوافينتورا دي سوزا سانتوس*‏ - (أذر نيوز) 14/4/2025
في حوار ودي مع جيفري دي ساكس
 
‏كنتُ قد كتبت نصوصًا عدة عن المجتمع الانتقالي الذي نحن فيه. وكلما فعلت ذلك، تتبادر إلى الذهن فكرة غرامشي الشهيرة: لا القديم مات تمامًا ولا الجديد أكد نفسه تمامًا؛ الانتقال هو وقت للظواهر المرضية (التي ترجمها البعض على أنها "وحوش"). ما يحدث في العالم يجعلني أشك في أن مفهوم الانتقال ما يزال مفيدا لتوصيف عصرنا. باقتناع متزايد، أعتقد أنه إذا كان علينا اللجوء إلى المظاهر الشهيرة والموجزة لحالتنا، فإن الخيار الأفضل هو خيار غويا Goya في العام 1799،‏‏ ‏‏"نوم العقل ينتج الوحوش". بمعنى، بدلاً من مجاز الحركة، مجاز الحالة.‏
 
 
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، اتفقت مع تحليل جيفري دي ساكس وتبادلنا الرسائل حول تقاربنا. وفي نص نشر في 11 نيسان (أبريل) في مدونة "أخبار أخرى"Other News (1) بعنوان "ولادة نظام دولي جديد"، يستخدم جيفري ساكس مفهوم الانتقال لتوصيف عصرنا: من عالم أحادي القطب يهيمن عليه الغرب منذ القرن الخامس عشر (في المائة عام الماضية، هيمنت عليه الولايات المتحدة الأميركية) إلى عالم متعدد الأقطاب يتمحور حول آسيا، وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ويكمن اقتراحه المركزي لضمان هذا الانتقال في صعود الهند (التي يقارنها بشكل إيجابي بالصين)، والتحول الجيوسياسي الذي يعنيه هذا الصعود نحو إصلاح "مجلس الأمن" التابع للأمم المتحدة، بحيث يمنح عضوية دائمة للهند.‏
لا أختلف مع اقتراح ساكس، على الرغم من أنه من الصعب الثناء على الهند في أسوأ لحظة من حياتها الديمقراطية، بفضل "الهندوسية السياسية" التي تحول أكثر من 20 في المائة من السكان (المسلمين) إلى مواطنين من الدرجة الثانية. ومع ذلك، فإنني لا أتفق مع الأهمية التي يُسندها ساكس لاقتراحه. يستند اقتراحه إلى مقدمتين خاطئتين للأسف: أن الأمم المتحدة ما تزال موجودة وتحتفظ ببعض الفعالية؛ وأن هناك نظامًا عالميًا أحادي القطب. ربما بشكل يائس ما يزال جيفري ساكس يؤمن بالدور الدولي للأمم المتحدة. هل يمكن الإيمان بالأمم المتحدة بعد الإبادة الجماعية الجارية في غزة التي يتم بثها على الهواء مباشرة كل يوم وللعالم بأسره لأكثر من عام ونصف الآن؟ هل يمكن الإيمان بالأمم المتحدة بعد كل الأكاذيب التي تم التسامح معها في البلقان، والعراق، وسورية، وليبيا، واليمن، وأفغانستان وأوكرانيا؟ دعونا نلاحظ حقيقتين مأساويتين: كل هذه الأكاذيب تمت إدانتها وشجبها بمصداقية وقت نشرها، وأولئك الذين شجبوها عانوا من عواقب وخيمة: الإسكات، الترحيل، والاضطهاد الإعلامي والقضائي. وتم تأكيد كذب كل هذه الأكاذيب بعد سنوات لاحقًا، غالبًا من قبل الوكالات نفسها التي روجت لها أو من قبل المتحدثين باسمها، سواء كانت صحيفة "‏‏نيويورك تايمز" ‏‏أو "الواشنطن بوست " أو‏ غرفة الصدى الضخمة التي يمتلكونها والتي تبث إلى وسائل الإعلام المهيمنة في جميع أنحاء العالم. ولم يعتذر أحد أبدًا لأولئك الذين كانوا على حق عندما كان ممنوعًا أن تكون على حق، ولم يتم تعويض الشعوب التي دُمرت بأعمال العدوان القائمة على الأكاذيب. هل يتذكر أحد أن ليبيا كانت تتمتع بواحدة من أفضل خدمات الصحة العامة في العالم؟‏
الفرضية الثانية هي أن هناك نظامًا عالميًا أحادي القطب. لا يمكنني الخوض في النقاش هنا حول ما إذا كان النظام العالمي أحادي القطب، حتى في زمن الكتلة السوفياتية. على أي حال، كان موجودًا لفترة من الوقت. على سبيل المثال، كان موجودًا عندما تم حظر ناريندرا مودي في العام 2005 من دخول الولايات المتحدة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان (مذبحة المسلمين في ولاية غوجارات في العام 2002). ولكن هل هو موجود اليوم، عندما يحظى مجرم حرب بتصفيق حار من الكونغرس الأميركي؟ أليس هو بالأحرى -نظام عالمي يمكن اعتباره أحادي القطب فقط لأن الدولة التي تتمتع بأكبر قدر من القوة هي التي تسبب أكبر قدر من الفوضى؟ هل من الممكن تصديق ما يقال عن الصين اليوم إذا كان ما قيل عنها قبل خمس سنوات فقط صحيحًا (حتى لو أن ما يظهر الآن على السطح كان قيد التحضير منذ فترة طويلة خلف الكواليس)؟ هل من الممكن الاعتقاد بصلابة النظام أحادي القطب القائم على الثنائية المتعارضة، الديمقراطية/ الاستبداد، عندما يكون "أفضل أصدقاء" رئيس أقوى دولة ديمقراطية في العالم جميعهم مستبدين؟ لسنوات عدة حتى الآن (خاصة منذ 11 أيلول/ سبتمبر)، كانت الطبقة السياسية الأميركية تسترشد بفكرة الهيمنة الإمبريالية وليس بفكرة النظام العالمي. وما عليك سوى قراءة "‏‏مشروع القرن الأميركي الجديد"(2) أو "‏‏عقيدة وولفويتز"(3) ليتضح لك أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل بشكل مستقل على المسرح الدولي عندما "لا يمكن تنسيق عمل جماعي". هذا ليس مبدأ من مبادئ النظام. إنه مبدأ من مبادئ الفوضى.‏
سوسيولوجيا الغياب: نوم العقل‏
‏على الرغم من بصيرة جيفري ساكس الثاقبة، فإن تحليله ومقترحاته تنتجان غيابين؛ واقعين اثنين واللذين على الرغم من أنهما موجودين، فإنه يتم إنتاجهما على أنهما غير موجودَين، وبهذا لا يعود بإمكانهما الإسهام في أي تشخيص أو حل. وليس عدم وجود هذين الواقعين نتاج فعل إرادي من جانب المحلل. إنه ينبع من الافتراضات القبلية، والمسلّمات الإبستمولوجية التي يرتكز عليها التحليل. إنه ينبع من سُبات العقل. لا تكمن مشكلة الغرب في الحالة التي قاد العالَمَ إليها بقدر ما تكمن في "الإبستيموسايد" (القتل المعرفي) الذي ارتكبه على امتداد تاريخه -بكلمات أخرى، في المعارف والتجارب الإنسانية التي قام بتدميرها عمدًا من أجل فرض هيمنته وتحطيم كل مقاومة ممكنة. لم يكن هذا التدمير موجهًا إلى الأجساد وطرق الحياة فحسب. كان أيضًا تدميرًا للمعرفة، والحكمة والأخلاق، وطرق العيش معًا للشعوب والأمم، لثقافات العلاقة مع الطبيعة، مع الأحياء والأموات، مع الزمان والمكان. وقد أنتج هذا التدمير متعدد الأوجه شكلاً محددًا من العمى يتكون من النظر من دون رؤية، والشرح من دون فهم، والملاحظة من دون معرفة أنه لا يمكنك الملاحظة من دون أن تكون تحت الملاحظة. إنني أميز، من بين أشياء أخرى كثيرة، غيابين: المختلف/غير المفيد، وراء الصديق/ العدو؛ العيش والسماح للغير بالعيش بما يتجاوز النظام والفوضى.‏
المختلف واللامفيد
‏الاستعمار والرأسمالية هما الشكلان التوأمان للهيمنة الحديثة. وكلاهما يرتكزان على منطق هرمي: متفوق/ دونيّ؛ مالك/ غير مالك. وفي كلتا الحالتين، تحدد الفئة الأولى الثانية. الدونيّ هو دونيّ فقط في ضوء مصالح المتفوق؛ ويمكن أن يكون متفوقًا في ضوء العديد من المعايير الأخرى، لكن هذا غير ذي صلة بالمتفوق؛ والمالك يحدد ما الذي له قيمة (مادية أو غير مادية) ومَن يمتلكه؛ يمكن لغير المالك أن يمتلك الكثير من الأشياء التي ليست لها قيمة للمالك وتكون بالتالي غير ذات صلة -أو غير موجودة. المنطقان متشابكان، على الرغم من أنهما يكشفان عن وجوه مختلفة للهيمنة. أن تكون متفوقًا من دون امتلاك ممتلكات ثمينة هو تناقض لفظي؛ جمع بين ضدين. وقد خلق هذان المنطقان نوعين من الثنائيات المتعارضة من العلاقات الاجتماعية المهيمنة: المفيد والضار؛ والصديق والعدو. النوع الأول نظر له جيدًا جيريمي بنثام Jeremy Bentham، والثاني نظر له كارل شميت Carl Schmitt.‏
أدى التفكير الرأسمالي الاستعماري الغربي بشكل منهجي إلى تقويض تدريب البشر على إدراك أهمية المختلف واللامفيد لأنهما لا يتناسبان مع أي من المنطقين الهرميين. ولهذا السبب، تجاهلهما أو أبعدهما إلى منطقة فائضة وغير مهدِّدة: الفن. أعطاهما هالة اللاضروري.
‏العيش والسماح بالعيش‏
‏حدد المنطقان الهرميان للكولنيالية والرأسمالية المذكوران أعلاه الحياة والموت منذ القرن الخامس عشر. وبما أن الحياة التي تستحق الحماية هي حياة المتفوقين والمالكين، وبما أن الغالبية العظمى من سكان العالم لم تكن كذلك، فقد سيطرت على العصر الحديث تجربة الموت -وحتى مشهدية الموت. لم يكن الموت فقط للبشر الأقل شأنًا وغير المالكين، ولكن أيضًا لجميع الكائنات الحية، للطبيعة بشكل عام. وتم تبرير موت الأنهار والجبال والغابات، حيث يمكن للمتفوق أن يراكم ملكيته للموارد الطبيعية الثمينة، لاهوتيًا، وأخلاقيًا وعلميًا -وقبل كل شيء، تم تبريره اقتصاديًا. هكذا وصلنا إلى زمن الانهيار البيئي الذي نجد أنفسنا فيه. والتطهير العرقي لغزة هو أحدث حلقة شنيعة في تاريخ طويل من التطهير العرقي والاجتماعي والطبيعي للبشر وما دون البشر وغير البشر.‏
إن نظامًا عالميًا، أحادي القطب أو متعدد الأقطاب يكون قائمًا على المقدمات المعرفية والأخلاقية نفسها التي هيمنت منذ القرن الخامس عشر، لن يفعل شيئًا لجعل مبدأ عش ودع غيرك يعيش ينتصر.‏
‏الخلاصة‏
‏ليس الانتقال من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب جيدًا أو سيئًا في حد ذاته. البديل الحقيقي هو توسيع مساحات الاختلاف وعدم الجدوى كقيم حضارية: الاختلاف كتنوع، واللافائدة كفائدة -بخلاف ذلك. يكمن البديل الحقيقي في تقدير قيمة الحياة، وهي قيمة لا يمكن احترامها إلا من خلال العيش وترك الآخر يعيش.‏
بعد خمسة قرون من التلقين الثقافي والمعرفي والأخلاقي، لديّ شكوك جدية في أن الفكر الغربي يمكن أن يتصور أو أن يلعب دورًا رائدًا في خلق عالم متعدد الأقطاب. إنه لن يعرف أبدًا كيف يكون واحدًا بين أقران. وعلاوة على ذلك، فإن قيم ما هو مختلف وما هو غير مجدٍ، والعيش والسماح بالعيش، هي أكثر حضورًا في التفكير الذي ينشأ في مناطق العالم حيث لدى جيفري ساكس بعض الأمل -آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية- من حضورها في التفكير السائد في العالم الغربي.
هذه الحقيقة في حد ذاتها ليست ضمانة، لأنه بعد خمسة قرون من الهيمنة العالمية، أصبح التفكير الغربي حاضرًا بشكل خبيث، فوق كل شيء في نخب البلدان في هذه المناطق؛ النخب التي من المرجح أن تكون هي التي ستصوغ العالم الجديد (القديم) متعدد الأقطاب. هذا هو السبب، بالنسبة لي، في أن الطبقات المستغلة والمضطهدة في هذه المناطق هي التي يمكنها أن تفعل أكثر من غيرها لمكافحة القتل المعرفي متعدد القرون. وسيفعل المنتمون إلى هذه الطبقات ذلك بقدر ما يستندون إلى تجربتهم الممتدة عبر قرون. لقد تأرجحت هذه التجربة دومًا بين الحرب والثورة. واليوم، بينما نسير نيامًا نحو حرب عالمية ثالثة (إن لم نكن قد دخلناها بالفعل)، ربما ينبغي لنا أن نُعيد النظر في مفهومي الثورة والتحرر ونعيد تعريفهما بصياغات جديدة. عندها فقط يمكن للعقل أن يستيقظ من السُّبات الذي حكمت عليه به كلٌّ من الرأسمالية والكولونيالية.
 
*بوافينتورا دي سوزا سانتوس Boaventura de Sousa Santos: عالم اجتماع. وأستاذ متقاعد فخري في كلية الاقتصاد، جامعة كويمبرا (البرتغال). وأستاذ متميز في جامعة ويسكونسن-ماديسون (الولايات المتحدة الأميركية). أحدث كتبه هو "إنهاء استعمار الجامعات: تحدي العدالة المعرفية العميقة".‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The West is not Blind. But it Cannot See
هوامش