عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    31-Oct-2025

الطنطورية لرضوى عاشور: رواية الفجيعة والمذابح والشَّتات

 الدستور

 
(إلى رُقيَّـة ومريم: لم أستطع الكتابة عن الطنطورية كرواية، فكان هذا النص تكفيراً عن إحساسٍ عميقٍ بالذنب)
 
مهدي نصير
 
تنكسرُ الوردةُ
 
تصهلُ فوقَ إسفلت الطريق المتكسِّرِ مُهرةٌ بريَّةٌ
 
تسعلُ طفلةٌ دماً
 
ويرتطمُ الحذاءُ الأبيضُ الصغيرُ بجثَّةٍ طريَّةٍ
 
تحضنها الصغيرةُ بيدينِ باردتينِ
 
تركضُ نحو منعطفِ الطريق كعُشبةٍ يابسةٍ
 
مبتلَّةٍ بالنحيب.
 
هل كان إلهُ الجنود - يوم الجمعة السابع عشر من أيلول 1982 – يحرسُ السواطيرَ والفؤوس ويوزِّعها علناً في علبٍ من الصفيحِ الملونِ بالفسفور؟
 
هل كان يجلسُ فوق رمل الطنطورية في ذلكَ الصباحِ البعيد ويُرقِّمُ الجثثَ الملقاةَ في شاحناتٍ كانت تذهبُ لمدافنَ مبهمةٍ وسريَّةٍ وموحشة؟
 
هل كان يهوه يغسلُ بيديه - المعروقتين والموغلتين بالدَّمِ – وجهكِ الأبيضَ حينَ مررتِ بقربِ رائحتهِ النتنة، خائفةً وخرساء؟
 
هل كان يبني قلاعاً جديدةً، وخزاناتٍ من دمٍ أحمرَ لتروي ظمأَ الوحشِ الذي نهض فجاةً وتسلَّقَ نحو الماءِ الذي كان ملعبَ طفولتكِ الصغير؟
 
هل كان يرقبُ غسان كنفاني وناجي العلي وأنيس الصايغ وكمال عدوان وكمال ناصر وجورج حبش وأبو علي مصطفى وأبو عمَّار بعيونٍ غاضبةٍ تنضحُ بالحقدِ والدَّمِ والوحشيَّةِ والنذالةِ التي لم يعرفها أكثرُ برابرةِ التاريخ وحشيَّةً ونذالة؟
 
رُقيَّة: كنتِ تعينَ ذلك وتكتمينَ حزنكِ ليتفجَّرَ فرحاً لمريم وحسن وصادق وعبد الرحمن ووصال وعين الحلوة وصبرا وصيدا.. والطنطورية!
 
-    مريم: أفقتُ، وجدتُكِ قُربي بلا جسدٍ، طفلةً فقدتْ كلَّ أشيائها، كنتُ أركضُ، أحملُ وجهَكِ هذا الصغيرَ المُدمَّى بينَ يديَّ، وألقيتهُ خائفاً لرقيَّةَ،
 
ومضيتُ نحوَ مستشفى عكا في صبرا يوم الخامس عشر من أيلول 1982 ولم أعد، كانت مريم رسالتي إليكِ وهديتي لترافقكِ ما تبقَّى من فرح.
 
حليمة، رُقيَّة، مريم، وصال: كان دمُ الطنطورية وعين الحلوة وصيدا وصبرا وشاتيلا وجنين والدوايمة.. كان هذا الدَّمُ يسري في عروقكنَّ ويُضيءُ عتمتكنَّ، ويضيءُ السنينَ العجافَ المليئةَ بالخوفِ والقهرِ والدَّمِ والمذابح والغياب بقليلٍ من الفرح.
 
ستُضئنَ هذا العالم المليءَ بالعتمةِ والقتلِ والبشاعةِ والآلهةِ الدمويَّةِ الزائفة، وسيكون الفرح والزغاريد التي ملئتْ بها رُقية ووصال ومريم فضاء اليونان في عرسِ حسن الأمين رسالةً لهذا العالم، أننا ما زلنا قادرين على الفرح:
 
ثمَّ زغرودةٌ طويلةٌ باغتتْ الروَّاد اليونانيين ولم يكونوا استوعبوا بعد وقفةَ وصال أو معنى ما تفعله ثمَّ:
 
(إيويها.. بحنَّةِ مكة جيت أحنِّيكِ.. ي
 
إيويها.. يا بدر ضاوي والحلى كله ليكِ.. ي
 
إيويها.. ما تلبق الحنَّة إلا لإيديكِ.. ي
 
إيويها.. يا فاطمة زين العرايس لحسن أوديكي)
 
زغرودة أخرى أشد من الأولى وأعلى، شاركتها فيها مريم وكريمة ورندة، ثمَّ:
 
(إيويها.. ضليت أركض ورا الأجوادِ
 
لأناسبــــــــــــــهُ.. م
 
إيويها.. هب الهوى ورماني على مصاطبهُ..م
 
إيويها.. دعيت رب السما ينصرهُ.. م
 
إيويها.. نصرة عزيزة تجبر بخاطرهم).
 
لم تقتصر الزغرودة الثالثة على مائدة العرس، تعالت الزغاريد من أرجاء المطعم لأن الروَّاد الذين كانوا يتطلَّعون إلى المرأة الكبيرة ذات الثوب المطرَّز والزنَّار القماشي المربوط ربطاً تحتَ المعدة تاركاً مدى لصدرٍ كبير، كانوا التقطوا اللعبة وأرادوا المشاركة.. واختلطت الزغاريد المتقنة بغرغراتٍ مبتهجة « من رواية الطنطورية ص 313 و314.
 
يا الله، هذا الفرح المخبوز بالحزن الصادق الباكي والمليء بأجيالٍ لم تفرح ولم ترقص وعاشت كل هذا الموت المخبيء بالصدور لتنثره في يومٍ واحدٍ فرحاً يليق بالحزن الذي احتضنه طويلاً:
 
«ما الذي فعله فيَّ صوتُ مريم؟
 
لم ارقص في حياتي
 
اقصد لم أرقص منذ أخرجونا من البلد. كنتُ أرقص هناكَ ثمَّ نسيتُ
 
أعلنتُ: سأرقص مع فاطمة
 
رقصتُ.» رواية الطنطورية ص 318
 
رُقيَّة التي عاشت المذابح من الطنطورية حتى عين الحلوة وصيدا وبيروت وصبرا وشاتيلا وبقيت تحمل في قلبها هذا الفرح العتيق المغمَّسَ بالخوف والفجيعة:
 
«أنا رأيتُ بامِّ عيني الذبابَ
 
عند حفرةٍ عميقةٍ وتتسع.
 
ورجال إسعاف بقفازاتٍ وكماماتٍ واقية.
 
ينثرون مسحوقاً ابيض،
 
يأتون بالجثث على نقالات،
 
يضعونها جثةً بجوار جثة،
 
يبسطون عليها مجتمعةً ملاءةً – غطاء
 
من البلاستيك
 
الذي تُصنع منه أكياس القمامة...
 
اتركي يا رُقية الصفحة للبياض» رواية الطنطورية ص 188 و189.
 
يقول عبد الرحمن الأمين المقاتل في الجبهة الشعبية وابن رُقيَّة وأمين والذي يرفض الخروج من بيروت عندما خرج المقاتلون من ميناء بيروت وأسلموا بيروت والمخيمات للقتلة والمجرمين:
 
«لم يكن الإسرائيليون هم من اقتحم المستشفى يوم الجمعة بل القوات اللبنانية، الكتائب ورجال سعد حداد...
 
إن كان أبي قُتل فكيف وأين ومتى؟ هل عذَّبوه وماذا قال او فعل؟ أين جثمانه؟ هل بقي تحت الأنقاض؟ هل دُفن في إحدى المقابر الجماعية التي حفروها هم أثناء المجزرة والتي منعت الحكومة نبشها؟ هل حملته واحدةٌ من الجرافات الثلاث التي شوهدت يوم السبت تغادر صبرا مكدَّسةً بالضحايا؟ أم ألقوا به في البحر كما فعلوا بآخرين بالقرب من الناعمة والدامور، بعد أن وضعوه في أكياس ثقَّلوها بالحجارة؟ أم حظي أبي بمراسم دفن شرعية فصلَّى عليه الشيخ سلمان الخليل أو أخوه الشيخ جعفر الخليل..» رواية الطنطورية ص 252.
 
الطنطورية لرضوى عاشور أكثر من رواية وأكثر من تاريخ وأكثر من وثيقة وأكثر من فرحٍ وأكثر من أملٍ، إنها حياةٍ لا تيأس ولا تستسلم وتبحث عن الفرح في شقوق الحزن المعشِّش منذ أجيالٍ في المكان والزمان الفلسطينيين.