عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Feb-2025

الردة العربية المبرمجة*حسني عايش

 الغد

قامت النهضة العربية التي انطلقت بالثورة العربية الكبرى في الحجاز على أن العرب في أقطارهم المختلفة أمة واحدة، وأنهم كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء في الصد والرد، وأن مصير العرب الذين قسمهم الاستعمار الأوروبي هو الوحدة أو الاتحاد. وكان العربي في تلك الفترة ينشد أنشودة الشاعر فخري البارودي الجميلة: 
 
 
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فـلا حـدٌّ يباعدُنــــــا ولا ديـــــــنٌ يفـرّقنــــــا
لسان الضَّادِ يجمعُنــــا بغـسَّانٍ وعـدنـــــانِ
لنا مدنيّةُ سَـلفَـتْ سنُحييها وإنْ دُثرَتْ
ولو في وجهنا وقفتْ دهاةُ الإنسِ والجانِ
هكذا نشأ الأطفال، وانصقل الشباب في تلك المرحلة. كانوا يحبون أمتهم ويرفعون رؤوسهم عالياً بها، فهي أمة عظيمة أسهمت كثيراً في الحضارة الإنسانية. وعندما كانت في أوج ازدهارها، كانت أوروبا تعيش في العصور المظلمة، وأعظم ملك فيها شارلمان كان أمياً. وقد اشتد الوعي بذلك وامتد حتى طاول عنان السماء:
العرب أشرف أمّة  :  ومن شك في قوله كفر 
كان عند الأطفال والشباب وبقية الناس آنذاك آمال كبار في دحر الاستعمار ونيل الاستقلال وصد الصهيونية وإسرائيل عن الهدف، ولكن الجيوش العربية في سنة 1948 / 1949 التي دخلت فلسطين لتطرد اليهود منها سرعان ما هُزِمتْ، لأنها كانت في حينه مبتدئة بل ومن صنع الاستعمار نفسه. وهكذا نشأت كارثة فلسطين التي استفزت آنذاك جميع العرب وجميع المسلمين. 
ومن أجل وضع حدٍ لهذا الفشل ظن العسكر بأنهم بالاستيلاء على السلطة سيوقفون هذا الفشل وسينتشلون الأمة من قاع البير، فأخذت الانقلابات العسكرية تقع وتتوالى، ولكنها قضت على الديمقراطية الناشئة واستفزت الأقوام غير العربية المشاركة في الوطن التي أخذت تتمرد أو تثور عليه للانفصال. كما تحولت الجيوش العربية من حامية للحدود والوطن والشعوب إلى قوات أمنية لحراسة الحكام الجدد في كل مرة.
ولما كان الغرب صهيونياً ولا يريد للعرب أن ينتصروا يوماً على إسرائيل ويحرروا فسطين، فقد انطلق لتشويه الفكر العربي وتبديد الجهد العربي، فانغمست دولهم الوليدة في الانقسام ولكن باسم فلسطين، فهزمتهم إسرائيل ثانية في “نكسة” 1967، واستولت بها على فلسطين بكاملها. كما أفشلت أميركا حرب 1973 بالدفرسوار والأسلحة اللازمة التي وردتها في الحال إلى إسرائيل وتداعيات ذلك معروفة، وأهمها اتفاقيات كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي الذي تحول فيما بعد وبقدرة قادر - غير معروف - إلى صراع فلسطيني (لا عربي) إسرائيلي ليس إلا. 
كان لسان العرب في مؤتمر مدريد لتسوية “القضية الفلسطينية” هو: كل واحد يقلع شوكه بيده، وليس له “خص” بالآخر. وهكذا تم دفن شعارات الحرية والوحدة والثأر والتضامن العربي بنسبة الإخفاقات السياسية والعسكرية إلى الأمة المتخلفة وليس إلى القطر أو إلى الانقلاب الذي أخفق. كما حلّت الخصوصية القطرية محل الهوية العربية “المغيبة”.
وقد انعكس النجاح الإسرائيلي الغربي في إيصال العرب إلى هذه الحالة المزرية الآن ببروز الإقليمية، ثم تحول هذه الإقليمية إلى عشائرية، وأخيراً إلى أنانية، وكأنها صارت أيديولوجيات بديلة للأيدولوجية “العربية القومية”.
لقد نجح العداء الإستراتيجي الصهيوني الإسرائيلي الغربي في قتل القيم العربية التي كانت رافعة للأمة، كالمروءة، والشجاعة، والكرامة، والتضامن.. وأحلت محلها النأي بالنفس عن قضية فلسطين والقضايا العربية، وانشغال الناس اليومي بالأقوات، وتدهور مهنة التعليم ومكانة المعلم فلا يقوم له أحد. بل بلغت المهانة بنا افتخار الواحد منا بإتقان اللغة الإنجليزية/ الأجنبية، وبضعفه في لغته العربية قراءة وكتابة وتعبيراً حتى وإن كان أستاذ جامعة. وعندما تنبهه إلى ذلك يقول لك: إنني غير مختص باللغة العربية مع أن الأجانب الذين يتقن لغتهم لا يخطئون في لغاتهم في التخصصات التي يعلمون. 
في أثناء المد العربي كان إحسان القطر العربي إلى الآخر أو مساعدته له في أمر، وحتى الاشتراك معه في الحرب ضد عدو، واجباً عربياً، فلا يمنّ يوماً عليه به أو يطالبه بالشكر عليه، وحتى إذا أساء إليه فإنه لا يطالبه بالاعتذار، بل يبحث له عن أسباب أو مبررات، ويمنحه الصفح.
أما اليوم فإنه إذا اكتفى السياسي العربي القطري أو المثقف العربي القطري بشجب جرائم إسرائيل الكبرى فإنه يفعل ذلك ليرفع العتب عنه أو مجاملةً، أو للحاق بالأجنبي الذي يشجب إسرائيل ويتظاهر ضدها، ولكنه للأسف وسوء الخلف والعلف يمن به على فلسطين، مع أن متظاهراً أوروبياً أو أميركياً واحداً ضد ما تفعله إسرائيل في غزة لا يمن على فلسطين بتأييده لها ضد إسرائيل.
وهكذا ردّ الشاعر المرحوم سميح القاسم على فخري الباردوي بقصيدة مضادة:
بلاد الرعــــــب أوطانــــــي :  من القاصي إلى الداني
ومن خوف إلى خطــــــر :  ومن منفى إلى الثانــي
بلاد الحــــــرب أوطانــــــي :  تدمــــــــر كـــــل بنيــــــــــانِ
توفى اﻷمن في وطنــــي :  وصار الموت مجاني
بــــــلاد الحــــــزن أوطانـــي :  بأشكال .... وألــــوانِ
فمن ألـــــم إلــــــى قهــــــــر :  إلى بــــؤس وحرمــــــــانِ
بلاد الصبر أوطانـــــــــي :   وحال الناس أبكانــــــي
فكم نزحوا وكم لجـــــــأوا :  وتاهوا دون عنـــــــــــوانِ
بلاد القهــــــــر أوطانـــــي :  وموت دون أكفــــــــــانِ
تمادى الحزن في قلبي :  وغطى الدمع أجفانــــي.