عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Oct-2019

محمد البوعزيزي.. سلام عليك من تونس - محمد الكايد
 
الجزيرة - غضب عارم وقرار سريع وصعب وشعلة صغيرة من نار بدأت تسري في جسد أيقونة الثورات العربية التونسي محمد البوعزيزي كانت كفيلة بكسر آلاف القيود وتحرير الشعوب من سجونها وعبوديتها للحكام، شاب دفعته كرامته لأن يحرق نفسه لا يبالي بآلامه من أجل استرداد ما سلب منه من بواقي إنسانيته، فالحر يعلم جيداً أن آلام الجسد أهون بكثير من آلام الروح ومرارة الذل والمهانة، ولكن تلك الشعلة الصغيرة التي أضرمها البوعزيزي في نفسه أشعلت أيضاً غضب الشعوب ليثور على الظلم والطغاة لتكون باكورة ربيع الثورات العربية، وليبدأ جمر تلك النار يفتك بكراسي الحكام الظالمين حتى تآكلت من تحتهم وبدأوا بالانهيار والسقوط تباعاً.
 
اليوم وبعد أكثر من ثمان سنوات على ذلك اشرقت الشمس في تونس من جديد بانتخابك رئيسها الأكاديمي القانوني الذي كان اختيار شعبها لا اختيار حاشية أو أحزاب أو دول، اليوم حق لكل تونسي أن يفتخر بأنه أصبح ينتسب إلى دولة ديموقراطية مدنية تجري بها انتخابات نزيهة تفرز رئيساً يحكمها بإرادة الشعب لا بإرادة الرصاص، وحق لنا كشعوب عربية أن ننظر لتونس وإنجازها بعينين، الأولى عين الفرح والسعادة بأن شعباً شقيقاً حقق أحلامه بالحرية والعدالة، والعين الأخرى يعلوها الحزن على حال باقي شعوبنا وما تتعرض له من ظلم وقمع وتكميم للأفواه والأقلام، ولنقل أن في قلوبنا بعض من غيرة مشروعة مما وصلت إليه تونس الخضراء الذي زاد اخضرارها وتألقها بسقيا العدل والحرية.
 
نم قرير العين يا محمد فيوم موتك كان ميلاد أمة، وذلك القرار الصعب الذي اتخذته أشجع من كل قرارات الشجب والاستنكار التي تصدح بها مؤتمرات العار العربية
لقد كنا حتى وقت قريب نتغنى بالديموقراطية والحرية الموجودة في غرب الأرض، ونغبط كل من في أوروبا على ما يتمتع به من كرامة وعدالة، وكان الوصول إلى ذلك مجرد حلم بعيد المنال، أما الآن فريحان الحرية أصبح قريباً حتى أننا نشتمه مع كل نسمة قادمة من تونس، وأصبحنا على يقين بأن تحقيق الأحلام ممكنا حتى وإن طال السبات، وكلما داهمنا اليأس ما علينا سوى أن ننظر لخارطة تونس، أو أن ننصت لعصافير الحرية تصدح في أجوائها، حتى يعاودنا الأمل وتسري في عروقنا جرعة من التفاؤل بما هو آت، فها هم أبناء جلدتنا وقوميتنا ينكتون الغبار الذي تراكم على أبواب الحرية ويفتحونها أمام الملايين للخروج إلى النور واستنشاق هواءً مشبعاً بالإنسانية والكرامة، ها هم يمهدون طريقنا في طليعة العطشى الذين أظمأهم الظلم والطغيان حتى جفت عروقهم وعقولهم وأقلامهم، ها هم قادتنا الحقيقيون يسيرون بنا إلى المستقبل حاملين قناديل تضيء الطريق، وفي كل قنديل قبس من النار التي أحرق جسد ملهمهم وقائدهم محمد البوعزيزي.
 
وعودة لأيقونة الثورات العربية وشرارة انطلاقتها، فإني أكاد أرى البوعزيزي يبتسم من قبره وهو يرى أن آلامه لم تذهب سدىً، وأن جسده الذي احترق كان شعاعاً برّاقاً أضاء الطريق للملايين للسير في طريق الحياة الكريمة، وأن الحرية التي أحرق نفسه من أجلها أصبح الآن يذوق لذتها كل تونسي، وإن كان الشعب التونسي أدلى بصوته ووضع حبر الحرية على إبهامه فإن البوعزيزي أدلى بصوته بروحه المنتشرة في كل ركن بتونس العربية من بنزرت إلى بورماش، ولعلّه أشد التونسيين فرحاً وافتخارا بهذا الإنجاز العظيم، أكاد أراه ينظر إلى كل طفل تونسي ويقول له يا بني لا تقلق فالمستقبل مشرق والقادم أفضل، أكاد أسمعه يشدو من قبره ((إذا الشعب يوماً أراد الحياة)) لترد كل تونس عليه ((فلا بد أن يستجيب القدر)).
 
نم قرير العين يا محمد فيوم موتك كان ميلاد أمة، وذلك القرار الصعب الذي اتخذته أشجع من كل قرارات الشجب والاستنكار التي تصدح بها مؤتمرات العار العربية، وصوت صراخ الألم منك وصل إلى أروقة الأقصى وتغلغل بين حجارته حتى بات يسمعه المصلي في المحراب فيدعو لك بالرحمة والمغفرة، وتسمعه بائعة الخضار في القدس القديمة لتدعو لك بمرافقة أبناءها الشهداء في عليين، ويسمعه الطفل المقاوم فيشد قبضته على الحجر لأنه يعلم بأنه سبيل التحرير، ويسمعه الجندي الغاصب فترتعد أوصاله ويرتجف قلبه خوفاً من زلزال يدمر كيانه المزعوم، نم قرير العين يا البوعزيزي فكل مظلوم في غياهب السجون يسلم عليك، وكل مهجّر في الغربة يسلم عليك، وكل جنين في بطن أمه يسلم عليك، وكل حر في هذا الكوكب يسلم عليك، نم قرير العين وحين تصحو تبسّم، وأنظر إلى تونس فكل تونس تسلم عليك.