مواقع
في معرض هجومه الكاسح على منافسته في الانتخابات الرئاسية الوشيكة، وفي غمرة تزلّفه الشديد لأصوات الناخبين الاميركيين اليهود، قال دونالد ترامب لا فُض فوه، في المناظرة التلفزيونية، امام عشرات الملايين، انه إذا تم انتخاب كمالا هارس لمنصب الرئيس، فان إسرائيل ستختفي من الوجود خلال عامين على الأكثر، الامر الذي بدت معه هذه النبوءة بمثابة نذير شؤم إضافي، رفع درجة القلق الوجودي المستشري اساساً في اوصال مجتمع انفجرت كل تناقضاته دفعة واحدة، وتعمّقت لديه حدة أسئلة المصير المتعلقة بمستقبل المشروع الصهيون، على خلفية الفشل الاستراتيجي المتفاقم منذ نحو عام.
دونالد ترامب ليس عرّافاً ولا هو قارئة فنجان، وبالتالي فقد كان من الممكن للمستخفين به ان يمروا على قوله هذا مرور الكرام، لولا ان الرجل البرتقالي كان رئيساً اميركياً سابقاً منح دولة الاحتلال في عهده أكثر مما كانت تحلم به، ولولا ايضاً انه صاحب صفقة القرن المشؤومة، ومرشّح يحتل في هذه الآونة صدارة الاخبار داخل اميركا وفي العالم كله، الامر الذي يجعل من كل كلمة ينطق بها، موضع اهتمام لدى مؤيديه ومعارضيه على حد سواء، وهو ما أدى الى اتساع دوي هذه النبوءة في اسماع المخاطبين بها داخل الدولة العبرية وخارجها.
كان السجال الداخلي قد احتدم قبل السابع من أكتوبر الفاصل بين زمنين، وظهر التطيّر ازاء مستقبل الدولة العبرية على ألسنة قادة إسرائيليين سابقين وكتاب وجنرالات متقاعدين، تحدثوا عن خراب الهيكل الثالث، واستذكر بعضهم لعنة الثمانين من العمر في التجارب التاريخية الفاشلة لبني إسرائيل، وشكك كثيرون منهم بقدرة دولتهم على البقاء الى اجل طويل، ثم جاء "طوفان الأقصى" ليرفع درجة حرارة الأسئلة الساخنة اصلاً، وليطرح المزيد منها على نحو أشد حدة من ذي قبل، سيما بعد صعود الصهيونية الدينية ومحاولة الانقلاب القضائي.
في ظل هذه الأجواء المفعمة بالتحديات والخيارات المستحيلة، فضلاً عن الانقسامات والانسدادات، أتت نبوءة ترامب هذه مثل شرارة وقعت على حقل اعشاب جافة، فأشعلت حريقاً كبيراً في الوعي الإسرائيلي، حيث موضع المعركة الأساسية في هذه الحرب التي تواصل دفع دولة الاحتلال نحو شفير هاوية تراها كل عين بصيرة، وتتحدث عنها الصحافة العبرية والمفكرون وكل صاحب عقل سوي ورؤية بعيدة، الا بعض المجانين الذين استولوا على المصحة العقلية قبل عامين، وراحوا يجرّون خلفهم الدولة والمجتمع والجيش والاقتصاد الى مصير مجهول.
حين يهجس ترامب على هواء البث الفضائي المباشر بزوال إسرائيل خلال عامين فانه يقول ثلاثة أشياء مهمة، أولها ان دولة الاحتلال لا يمكنها الدفاع، وحدها، عن نفسها بنفسها، وان بقاءها متعلق بعامل خرجي متغير بالضرورة الموضوعية، وليس بمحض قواها ومقوّماتها الذاتية، وثانيها ان هذه الدولة المجنونة تحولت من ذخر تاريخي للغرب واداة ضاربة بيده، الى عبء استراتيجي واخلاقي واقتصادي،
وثالثها ان اسرائيل هي الدولة الوحيدة في هذا العالم المهددة بالزوال عن الخارطة عند اول هزيمة، جراء ضعف تكوين مركّباتها وهشاشة مقوماتها التأسيسية من المساحة والسكان الى البيئة المعادية.
في الذاكرة الغضة تتجلى حقيقة ان اميركا ومعظم الدول الأوروبية، قامت خلال تسعة أشهر، ولثلاث مرات متعاقبة، بإرسال ترساناتها الحربية، بما في ذلك حاملات الطائرات، الى بحار الشرق الأوسط ورماله، لحماية ربيبتها المدللة من خطر انهيارها، ومن ثمة زوالها من جغرافيا هذه المنطقة، الأولى كانت غداة واقعة "طوفان الأقصى" والثانية عشية الضربة الانتقامية الإيرانية في ابريل/ نيسان الماضي، اما الثالثة فقد انطلقت بحاملتي طائرات وقوة جوية هائلة، وذلك لتهدئة روع قوم فُلّ حديدهم وتمزقت روحهم صبيحة السابع من اكتوبر الماضي.
بكلام آخر، فقد سدد ترامب، دون ان يدري، طعنة نجلاء الى من رأوا فيه مخلّصاً، او اخاً أكبر يعطي لهم أكثر مما يطلبون، طعنة وقعت في حيّز الوعي، حيث رحى المعركة الكبرى الطويلة، بقوله ان مصيرهم النهائي ليس بين أيديهم، وان وجودهم معلّق على إرادة غيرهم، بمن في ذلك الاميركيون، الذين بدأت الأجيال الشابة منهم، سيما طلاب الجامعات واساتذتها وقادة الرأي العام والمجتمع المدني، من خارج الكونغرس، يديرون ظهورهم للدولة المتوحشة، يومؤون الى مستقبلها المظلم، ويرفعون الشعار الذي غاب حتى عن العالم العربي، ونعني به شعار "فلسطين حرة من البحر الى النهر".