آفاق التعافي السوري في ظل تجاذبات القوة*د. أحمد بطّاح
الراي
لعلّه لا خلاف على أنّ الملف السوري مُعقّد إلى درجة كبيرة وذلك بفعل تداخل العوامل المحلية والإقليمية والدولية، فعلى الصعيد المحلي هناك مكونات (أقليات) عديدة في سوريا برغم وجود أكثرية وازنة تزيد عن 70%، وعلى الصعيد الإقليمي هناك قوتان إقليميتان مؤثرتان لا تملكان نفوذاً فقط في سوريا بل لهما وجود عسكري فعلي على الأرض السورية وهما إسرائيل وتركيا، وعلى الصعيد الدولي تملك أقوى دولتين عسكريتين في العالم وهما الولايات المتحدة وروسيا قوات وقواعد عسكرية على التراب السوري (قواعد عسكرية مثل "التنف" للولايات المتحدة، وقاعدة طرطوس البحرية و حميميم الجوية لروسيا).
ولكن... وبرغم كل هذه العوامل السلبية يبدو أن سوريا سائرة على طريق النهوض والتعافي مستفيدةً من عدد من الظروف والاعتبارات التي يمكن أن نُجملها على النحو الآتي:
أولاً: نجاح الإدارة الانتقالية الجديدة في تجاوز ماضيها "الجهادي" والتكيّف مع روح العصر حيث شكّلت حكومة تضم جميع المكونات، ووضعت "مسودة دستور انتقالي"، وهي بصدد إجراء انتخابات تشريعية في سبتمبر القادم، وقد أثبتت موجوديه حقيقية حين ضربت "فلول النظام السابق" في الساحل السوري وضمنت استقراره، كما حيّدت بوادر التمرد المسنود من إسرائيل في محافظة السويداء وهي في طريقها إلى "حلحلة" موضوع "الإدارة الذاتية الكردية" في شمال شرق سوريا ودمجها في الدولة السورية، الأمر الذي كرّس مشروعيتها كسلطة ضامنة لوحدة البلاد: أرضاً وشعباً، ولا يقل أهمية عن ذلك سعيها الحثيث لتحريك عجلة الاقتصاد السوري وتأمين الخدمات الأساسية كالكهرباء وغيرها للشعب السوري الذي حُرم منها طويلاً.
ثانياً: توافق دول الجوار كالأردن، والعراق، وتركيا، ولبنان على دعم وحدة سوريا واستقرارها. صحيح أن هناك بعض القوى الإقليمية غير راضية وتحاول العرقلة ما أمكنها ذلك كإيران وإسرائيل كلٌ لمصلحته، ولكن يبدو من الواضح تماماً أن إيران خرجت -ولو مؤقتاً- من دائرة التأثير في الإقليم، كما أن إسرائيل -بتأثير من الولايات المتحدة وبحكم مصالحها الاستراتيجية- سوف "تتفاهم" مع الإدارة الجديدة من خلال "اتفاقية أمنية" قد تتطور إلى "اتفاقية سلام"، أو شكل من أشكال "التطبيع".
ثالثاً: الإسناد القوّي لسوريا من قبل دول الخليج العربي وبالذات السعودية وقطر، وقد لعبت السعودية دوراً حاسماً في إقناع ترامب برفع العقوبات عن سوريا (وهي عقوبات كانت مُكبِّلة لسوريا بكل معنى الكلمة)، كما لعبت قطر دوراً اقتصادياً مهماً في رفد الخزينة السورية، وتدعيم قطاع الكهرباء المُتهالك، وفتح المجال واسعاً للاستثمار والإعمار. إنّ سوريا بحاجة ماسة إلى الإسناد العربي وبخاصة من دول مجلس التعاون الخليجي لأنها تعاني من ضائقة اقتصادية أساساً، ومن الواضح أن دول مجلس التعاون الخليجي (وبصورة متفاوتة) عازمة على تقديم كل ما تستطيع لإنجاح سوريا الجديدة، وتمكينها من الوقوف على قدميها من جديد.
رابعاً: التفهم الدولي الواسع النطاق لطموح سوريا في النهوض والاستقرار، وقد دلّ على ذلك بوضوح رفع الولايات المتحدة لمعظم العقوبات عن سوريا وتيسير عودتها إلى المؤسسات الدولية: السياسية والاقتصادية، كما دلّ عليه رغبة روسيا في الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها مقابل الحفاظ على العلاقات التاريخية معها، وربما الحفاظ على قواعدها ضمن تفاهمات جديدة. إنّ معظم دول العالم وبالذات الدول الغربية النافذة (كبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا....) تريد إعطاء النظام السياسي الجديد في سوريا فرصة لتحقيق السلام والاستقرار إدراكاً منها أن الوضع السوري ينعكس إيجاباً أو سلباً ليس فقط على الإقليم بل على العالم في الواقع كما حصل عندما تدفق اللاجئون السوريون إلى مختلف بلدان العالم وبخاصة الدول الغربية.
إنّ من الأهمية بمكان الإشارة في هذا السياق إلى أنّ أولى الأولويات في الموضوع السوري هو منح الشعب السوري ما يستحقه من حرية بعد عقود من الحكم الاستبدادي، كما أنّ من أولى الأولويات تحسين حياة السوريين وتمكينهم من العيش بكرامة وبحد أدنى من مقومات الحياة العصرية التي تتمتع بها كثير من شعوب العالم، وحيث أنّ الإدارة السورية الجديدة مدركةٌ لأهمية هذين البعدين الاستراتيجيين الهامين، وحيث أنّ العالم بشكل عام متفهم ومتعاطف لتحقيق هذين الهدفين الحاسمين للشعب السوري، فإنّ من المتوقع أن تنهض سوريا وأن تتعافى وأن تحقق حلم شعبها في الاستقرار، والازدهار.