الراي - نطل على العالم فلا نعرف اذا كنا فيه او خارجه. نطل على التاريخ فلا نعرف اننا فيه او خرجنا منه. نحن في تيه حقيقي ولكن نهايته عودة. اليوم ما زلنا نسفك دمنا ونقدمه قربانا للآخر كي ننجوا ولكننا نواجه موتا أكثر، لأننا نعرف أن اكثر من سفاح يكمن وراء المنعطف.
ما زالت نيوزيلاندا بعيدة جغرافيا ولكن المذبحة قريبة وجدانيا وتاريخيا، موقعها في عمق الجرح النازف. القاتل السفاح مر من هنا، وهو ينتمي لتيار ديني فكري متعصب، علق في تاريخ المنطقة وماضيها.
لم نكن بحاجة الى المزيد من دم الابرياء، لنعرف اين وكيف نبتت جذور الارهاب، ومن يرعاه ويدعمه، وهنا اشير بكل الاصابع الى واشنطن، فهي تسوّق التطرف في كل الأديان لأسباب تعرفها جيدا.
من خلال عودة الى الجذور والبدايات نكتشف أن الرئيس ريغان وضع في سلم اولوياته محاربة الشيوعية لصالح الراسمالية واقامة نظام عالمي جديد، لذلك بادر الى دعم حركة » المجاهدين » في افغانستان التي كانت نواة تنظيم القاعدة، الذي قاتل الجيش الاحمر السوفياتي، قبل أن يفيض النهر على ضفتيه ويتمرد المصنوع على الصانع.
بدأ المشروع باحتلال افغانستان والعراق، وبعدها أطل علينا «الربيع العربي» حاملا لنا الفوضى الخلاقة، وتنظيمات دينية مسلحة متطرفة تكونت في رحم القاعدة مارست العنف والارهاب، وشاركت في تدمير البلاد العربية، حتى وصلت النار الى الدول الغربية التي قدّمت الدعم السياسي والمادي والعسكري لهذه التنظيمات غير المنضبطة، والتي نتج عن ممارساتها اثارة الكراهية والمشاعر العنصرية ضد العرب والمسلمين.
بعدها دخل العالم مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، وهي المرحلة التي انتشر فيهاالفكر اليميني المحافظ، والأهم هو ظهور كتابين مهمين الاول لفوكوياما «نهاية التاريخ» الذي بشّر بسيادة الديمقراطية الليبرالية في العالم، وكتاب «صدام الحضارت» لصموئيل هنتنغتون الذي اكد أن الصراعات الجديدة لن تكون بين الدول القومية بسبب اختلافات سياسية واقتصادية، بل بين الثقافات والحضارات، اضافة الى دور اليميني المحافظ برنارد لويس المؤثر في السياسة الخارجية الاميركية وعلى صنّاع القرار في واشنطن.
هذه المدرسة انتجت الرئيس ترمب، وهو لم يقصّر ابدا في التبشير بمبادئها، فقد مارس كل اشكال التمييز العنصري، ونشر الكراهية ضد المهاجرين، وبشر ببناء امبراطورية الرجل الابيض القوية، كما بادر الى استنهاض المشاعر الدينية المتطرفة لمواجهة المد الاشتراكي في اميركا اللاتينية ووعد بدعم الطبقات الراسمالية اليمينية في هذه البلاد وتحريضها على الثورة.
هذا النهج هو الذي خلق الارهاب والعنف والفوضى ، وهذه المبادئ الشريرة اعتنقها سفاح المسجدين في نيوزيلاندا وكل قادة التنظيمات الدينية المتعصبة الارهابية، وهي المبادئ التي تخالف قوانين وتعاليم المؤسسين للولايات المتحدة وفي مقدمتهم بنيامين فرانكلين الذي وقع على اعلان الاستقلال ووثيقة السلام والدستور، والذي نادى بالديمقراطية والحرية والمساواة والتسامح والفصل بين السلطات ومبادئ العقل الفلسفي المضادة للكهنوت الديني والاقطاع السياسي .