عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Apr-2021

صباح الخير أيها الخال*موفق ملكاوي

 الغد

لأيهما أمارس حزنا أشد؛ أمي أم أنت؟
الفجيعة واحدة، وتجرع الغياب هو نفسه في الحالتين. غير أنني أختزن كلاما كثيرا كم وددت لو أنني قلته لك قبل أن تغيب.
صباح الخير أيها الخال.
نمت، فنام السوسن ذبولا فوق أغصانه الغضة، ومسحت الأجراس دمعها بالصمت، واستسلم الفرح الخجول لقنوط طويل.
صباح الخير أيها الحنون كنهر دائم العطاء. نمت، فنامت الحياة، ونام الموت.
كنت أرقب “المثلث” في غدوي ورواحي، وأراك على كرسيك الدائم، كأي جبل، شامخا تسند ظهرك للحائط الرمادي الهرم، وتسرح في ذكريات كثيرة تنهل منها وتقول عنها إنها “أيام كانت البلاد بلادا”.
ألم تعد البلاد كذلك يا خال؟!
رأيت دمعات تحرس بوابة الخجل وأنت تحكي عن رفاق ساروا إلى الموت مبتسمين، ولم يترددوا في البوح عن حبيبات ينتظرن زيارات خاطفة بين الغارة والأخرى.
رأيت جيوشا تنحني خجلا حين تعد جروحك المباركة، أو تعد الشظايا التي ما تزال تسكن جسدا عاند كل معادلات الفناء، لكي يبقى.
رأيت وداعة طفل يحب الحياة، وحكمة شيخ ينهل من معرفة البشر والأحداث، ويمنح الناس البهجة والحب. ورأيت عطف الكبار، وعطاء المتمرسين بالكرم حد الإعياء.
أستميحك عذرا أيها الخال المبارك؛ ففي الصعود الدرامي إلى ذروة المشهد ثمة دائما أحداث تكشف عن الشخصية، وفي المواقف الصعبة يصعد دائما شخص وحيد قادر على أن يلم الارتباك كله، ويخيط شتات الأمور مرة أخرى، ليؤسس بداية جديدة، وأحيانا غير متوقعة. كنت أنت القادر دائما على فعل ذلك. بهدوئك، وأحيانا بنزقك وعصبيتك تقترح الطرق البديلة، فحفظت عائلة كبيرة تنوء بها دول لم تحدد حتى اليوم وجهتها ولا لونها.
ودعني أقول أيضا إنك حفظتني من أن توغل بي الخيلاء، أو يتلبسني الكبر المقيت. كنت دائما ماثلا في رؤاي حين أوشك أن أنقل خطوتي إلى مكان جديد.
وأتذكرك بابتسامتك الدافئة حين طلبت مني، وأنا ما أزال في الصف الأول، أن أقرأ من كتاب كبير الحجم لم أعد أذكر ما هو اليوم. رأيت فرحك الحقيقي حين قرأت السطور بطلاقة، فحضنتني وقبلتني على جبيني بدفء كبير ما أزال أتلمسه حتى اليوم.
قد تكون تلك اللحظات هي الشرارة الأولى التي زرعت في داخلي حب القراءة، خصوصا مع “الرشوات” الكثيرة التي كنت تغدق علي بها من دكانتك الصغيرة التي جربت بها حظك في الحياة بعد أن أصبحت “محاربا سابقا” بنياشين كثيرة.. وقوتٍ قليل.
تحيط بي بصورتك الزاهية التي لا تستقيم معها عبارات الاعتذار عن صعوبة المعرفة، ولا القول إن “المعاصرة حجاب”. مثلك شمس تفضح الأرض بضوئها، ولا تعتذر عن ممارستها كل هذا الوضوح.
تلك قصة أخرى، لكنها أساسية حين نسرد حكايات البشر. حين نستعين على جهلنا بما اختبره الآخرون من دمائهم؛ ضريبة الدم لا يمكن أن تتم مقارنتها بأي ثمن آخر يمكن لنا أن ندفعه ونحن مشغولون بالارتباك واللايقين والسقوط بين اليقظة واستعاراتنا من أمسنا المبتلى بعدم الوضوح.
وأذكرك بالخير دائما: أذكرك نبيلا وفارسا وغيورا وكريما. أذكر كيف تكون عطوفا حد شق الدموع طريقا إلى الوجنتين، وصارما مثل ديكتاتور يهيمن على مملكة مبتلاة به، وعادلا مثل عمر يخشى الوقوع بالعسف، وجوادا كحاتم يكرم للضيفان حتى لا يجد شيئا يطوي به جوعه الليلي!
أذكرك بكل الصفات التي تبقينا؛ أبناءك وإخوانك وأنا، فخورين بأن نرتبط بك، وأنك كنت في عالمنا، وننهل منك البساطة والطيبة والعزيمة.
صباح الخير أيها الخال العزيز.
حفظتني عن ظهر قلب؛ طفلا فغلاما فمراهقا فشابا.. ثم رجلا قليل البأس. وفي كل تلك المراحل أحببتني لأزيد من خمسين عاما. وأنا أحببتك لآخر قطرة من هوائي.
صباح الخير أيها الخال الجليل العزيز.