عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Mar-2021

نوال السعداويّ… سيرةٌ فكريّة ورسالةٌ تاريخيّة

 القدس العربي-نادية هناوي

لم تكن نوال السعداوي امرأة ليبرالية تحررت فتمردت وجادلت فتناقضت، ولا هي (نموذج شوفيني أنثوي يعلن ثورة كل النساء ضد كل الرجال، وصولاً إلى جنس ثالث ملتبس)؛ بل هي المثقفة الحرة التي أخافَ تحررُها المتزمتين الذين ينكرون على النساء أي حق في الحرية. وهي المفكرة الأصيلة والفيلسوفة الأمثولة التي رفضت التمييز بين الجنسين، ورأت أن التطرف والنبذ والتعصب والتشويه صفات تجرِّد المرأة من الحرية وترهنها بالضيق الفكري، بدل أن تعمل على دعم صورتها وتأكيد جدوى فاعليتها. وهي الكاتبة المناضلة والروائية الكبيرة التي لاقت بسبب كتاباتها النسوية وآرائها التنويرية والتحريضية حول الختان، وتعدد الزوجات، والمثلية والحجاب، كثيراً من الاذى والتصادي، فاتُهمت واعُتقلت وحوصرت ولوحقت. وعلى الرغم من كل ذلك، صمدت وواجهت وانتفضت، فلا هادنت ولا ساومت، ولا تنازلت حتى استطاعت أن تصنع لها تاريخاً نسوياً فيه تتجلى قوة رسالتها، وقيمة أهدافها برجاحة منطقها وثبات مبادئها وبسالة روحها وجمالها.
وهذا التاريخ الذي صنعته نوال السعداوي بيديها، كفاحاً ونضالاً كانت قد سطرته في شكل سيرة ذاتية سمتها (أوراق حياتي) وهي في ثلاثة أجزاء، وكتبتها ونشرتها في زمن لم تكن كتابة السيرة الذاتية النسوية(feminist autobiography) معتادة، بسبب تلاقي أنا المؤلف بأنا السارد، وما يتطلبه هذا التلاقي من جرأة في المكاشفة والبوح بخصوصيات شخصية واستثمار للتفاصيل الخاصة، وما فيها من عرض لأسرار ذاتية وتجارب إبداعية، مهنية وغير مهنية، حسنة وسيئة، يتم إعلانها على الملأ. ولو عدنا إلى ما كُتب من سير ذاتية، لوجدنا أن ثلاثة أرباعها رجالية، وربعا أو أقل منها هو سير ذاتية نسوية بغض النظر عن اختلاف هذه السير في درجة البوح ومستوى الإعلان والمكاشفة، وضغوطات المنظومة الثقافية ومكبلاتها الأخلاقية، ومواضعاتها الأدبية الصارمة.
واصلت نوال السعداوي بكتابة سيرتها، ما كان قد بدأه الجيل النسوي العربي الأول قبيل القرن العشرين، بدءا بعائشة عصمت التيمورية (1840ـ 1902) التي تعد أول امرأة عربية في العصر الحديث كتبت سيرتها بنفسها، متناولة طفولتها وتعليمها المنزلي، وعشقها للكتب والتعلم، الذي فتحه امامها أبوها. ومن بعدها كتبت إيميلي روت أو الأميرة سالمة ( 1844ـ 1924) سيرتها تحت عنوان (مذكرات أميرة عربية) وهي أميرة عمانية صورت حياتها في قصر السلطان في زنجبار، ثم نشرت هدى شعراوي (1879ـ 1947) سيرتها تحت عنوان (مذكرات هدى شعراوي) وهي ناشطة نسوية، وزعيمة سياسية ناضلت من أجل حقوق المرأة.
 
تمكنت نوال السعداوي من تأكيد فرادتها كامرأة وساردة، واضعة بعض التقاليد العربية لكتابة السيرة الذاتية النسوية، مغيرة بشكل أو بآخر كثيراً من الأفكار التي ترسبت في الأذهان التي هي في حقيقتها تعد من تمريرات الذكورية وتوجيهاتها، التي بها حصرت النسوية في خانة مجتمعية معينة لا غير.
 
ومثلهن كتبت نوال السعداوي تاريخ حياتها، مسطرة إياه على أوراق الزمن، معترفة أن للكتابة خصوصية، ولها ثمن، وثمنها اسمها الذي كان مسجلا في (أقسام وزارة الداخلية والشؤون الاجتماعية ومصلحة السجون، وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية) وهي القائلة: (الكتابة في حياتي مثل حضن الأم مثل الحب يحدث بلا سبب)، واتبعت في كتابتها شكل البحث الشفوي، طارحة على نفسها أسئلة توقظ ذاكرتها، فتجعلها حية متفاعلة ساردة بضمير الأنا متناقضات حياتها، مستلهمة قدرتها السردية، متخيلة شخصية عصية على الفهم تكتب معها (أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها أو دورتها حول الشمس. تضحك وتقول نحن أحرار ندور كما نشاء حول أنفسنا، أو حول غيرنا أو لا ندور لكن عقلي يدور رغم مشيئتي في النوم كما اليقظة). وهذا أمر يتكرر كثيرا في كتاباتها ويتصدر أعمالها كافة، واللافت للنظر أنها تقدم في سيرتها أيضا تاريخ مصر السياسي، بكل ما فيه من وقائع وأحداث شهدتها أبان المرحلة التي عاصرتها، مسجلة اعترافاتها، لاسيما تلك الأحداث التي رافقها الذعر من جراء الآخر المتأسلم (في النوم أرى دمي مهدرا فوق أسفلت الشارع، تزحف قشعريرة باردة إلى جسدي من الرأس إلى بطن القدمين والصوت يزعق: اقتلوها الكافرة عدوة الله والإسلام) فضلا عن مكاشفات جريئة وانتقادات واقعية ومعارضة، مع ذكر لأمكنة بعينها وأسماء نسوة رافقنها في مسيرتها الحياتية مثل سامية ولطفية الزيات وبطة.
وعادة ما يرافق الفعل التوثيقي عندها فعل تخييلي يتمثل في الأحلام والتهويمات، مستخدمة اللغة المحكية واللهجة المصرية، متلاعبة بالزمن تقديما وتأخيرا، استباقا واسترجاعا. وإذا كانت هذه السيرة قد اشتملت على زواجات السعداوي الثلاثة وأولادها منى وعاطف، ثم اغترابها وعودتها إلى مصر؛ فإن سيرتها الذاتية الأخرى التي تسبقها زمنيا وهي (مذكرات طبيبة) سردت طفولتها ودراستها وعملها طبيبة. وكانت الفرادة في كتابة نوال السعداوي لسيرتها أن تاريخها النسوي تمثل في مستويين: مستوى خارجي ويظهر في ما عبرت عنه توثيقيا وتخييليا من كفاح في سبيل تحرر المرأة، ورفع الظلم عنها. ومستوى داخلي يظهر في صورة بواعث لاشعورية، وترسبات جينالوجية بها عبرت نوال السعداوي عن همومها الشخصية، ونوازعها في إثبات عدالة قضيتها، وتأكيد أحقية دفاعها عنها وبطريقة تلقائية.
في هذين المستويين تمكنت نوال السعداوي من تأكيد فرادتها كامرأة وساردة، واضعة بعض التقاليد العربية لكتابة السيرة الذاتية النسوية، مغيرة بشكل أو بآخر كثيراً من الأفكار التي ترسبت في الأذهان التي هي في حقيقتها تعد من تمريرات الذكورية وتوجيهاتها، التي بها حصرت النسوية في خانة مجتمعية معينة لا غير. ومن تلك الأفكار أن المرأة ضعيفة ومتسرعة تتحكم فيها عواطفها وهي غير قادرة على الحكم بسبب نقصان عقلها، وأن المرأة عدوة المرأة أو ضرتها، سواء في علاقتهن مع بعضهن، أو مع أنفسهن أو في مواقفهن النسوية من الآخر.
وإذ يغيِّب الموت نوال السعداوي بجسدها؛ فإن فكرها لن يغيب وستظل رسالتها الإنسانية على الأهمية نفسها، وبالدور الخطير الذي ينبغي على امرأة القرن الحادي والعشرين أن تحمله على عاتقها، مواكبة ما يجري في العالم من تسارع مذهل ولكنه متضاد. وهذا ما يجعل أمر التغيير والانقلاب ممكنا وفيه الكتابة النسوية أدباً وفكراً، هي السبيل الاكثر أهمية في بلوغ المرامي. وما على النسويات العربيات إلا أن يشدّ بعضهن أزر بعض، وأن يتكاتفن مؤكدات أن الرسالة التي كرست نوال السعداوي حياتها من أجلها ستظل مستمرة حية ونابضة، بفاعلية في سبيل استعادة قيمة المرأة من جديد؛ وإلا فإن الرياح ستجري من دون أن تسير مراكبنا نحن العربيات، وقد تودي بنا نحو التكسر على جزيرة التهميش من جديد مثلما فعلت مع سابقاتنا في عصور خلت.
وبالعزم والتصميم اللذين تتعاهد عليهما الكتابات النسوية، وبقدرتها وقوة إرادتها واستعدادها لبذل التضحيات مع عدم المهادنة في التنازل عن أي حق من الحقوق، ستكون رسالة نوال السعداوي قد أتت أكلها. والنساء العربيات بعددهن وعدتهن وإمكاناياتهن قادرات على التأثير ومتمكنات من حمل الأعباء وقد تآزرن في موقف موحد معليّات أصواتهن ومعلنات عن تطلعاتهن بلا وجل ولا كتمان، نافضات عنهن عهودا من التحجر والاحتجاب، رافعات عن أعينهن غشاوة الخوف وغمامة الوجل، منتقمات من حقب الظلم والفشل والقسوة واللامبالاة، عازمات بجدية لا متناهية على بلوغ ما يطمحن، مصممات على قهر الفحولة لا بتحطيمها؛ بل بجعلها مؤمنة بوجود نسوية لا بد أن تشاركها وأن يكون لها حضورها في خريطة الحياة بكل صنوفها.
وإلى أن يأتي ذلك اليوم تظل الكتابة الممثل الأهم للنسوية العربية، بعيداً عن طائلة الإشهار الشعارية، واليافطات الاحتفائية التي لا إنجاز من ورائها لكونها برامجيات مرجأة وأحلاما مؤجلة وأفكارا عاجلة وبوادر طارئة ولا أساسية ..
 
كاتبة عراقية