عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Feb-2025

عِبَرٌ للاعتبار| د. م. منذر حدادين

 

عمون
د. م. منذر حدادين
 
أدين للمطران الفلسطيني عطالله حنا / القدس تذكيري بالآية 15 الفصل 14 من الإنجيل نقلاً عن متى، الإنجيلي البشير والتلميذ الطاهر.
تقول الآية "إتركوهم ، هم عميان قادة عميان، وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة." وجب علي تذكرها إثر اللقاء الثنائي بين الرئيس دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بيبي نتانياهو.

لم أتشرف بلقاء الأول أو بالتحدث إليه، لكني عرفت الثاني منذ أن كان ناطقاً باسم الوفد الإسرائيلي للمفاوضات في أوائل تسعينات القرن الماضي ثم قابلته كرئيس للوزراء ضمن مسؤولياتي الرسمية وتحدثت إليه وإلى وزيره أرئيل شارون عامي 1998- 1997، ثم في أواخر آذار 2006. وفي تلك الجلسة الصباحية الرسمية في فندق الملك داوود بالقدس الغربية وافق على إقامة دولة فلسطينية بالتفاوض المباشر بين إسرائيل والفلسطينيين. كما وافق على البدء بإعداد متطلبات البنية الناعمة لتلك الدولة بجهد مشترك وسمّى مندوبيْه كما تمت تسمية المندوب الأردني على أن تعقد هذه النقاشات باشتراك أو إشراف أميركي في معهد هدسن بنيويورك. وكان الجو السياسي نشطاً حيث أعلن في إسرائيل آنذاك عن انتخابات ستجرى في شهر أيلول من ذلك العام ومالت التقديرات إلى فوز الليكود وعودة نتانياهو ليحتل منصب رئيس الوزراء بدلاً من حزب كاديما الحاكم يومها ورئيس الوزراء إيهود أولمرت. ولم يمض سوى يومين كي ينقلب نتانياهوعلى ما وافق عليه وتوقف ذلك الجهد البناء. وفقدت منذئذٍ كل ثقة فيما يقوله نتانياهو أو يدعيه. ولا أدري من يقود من العميان! لكن لدي ثلاث عبر وجيزة حريّة بالنظر إليها والاتعاظ بها من قبل كلا الرئيسين الأعجميين:

الأولى: كانت مسنّةٌ أردنية في زيارة لأحفادها بدمشق في أوائل الستينات من القرن الماضي، واعتادت أن تزور حديقة "المزرعة" القريبة من سكن معازيبها والتي تقع خلف بناية البنك المركزي السوري وبناية رئاسة مجلس الوزراء آنذاك. جلست تلك المسنة يوماً بثوبها الكركي البهي على أحد كراسي الحديقة وبعد قليل اجتذب لباسها صبيةً كانوا يقضون وقتهم في نفس الحديقة. اقتربوا منها وعرفوا أنها من الأردن وأنها تنوي العودة إلى بلادها بعد يومين.

- لكنك هنا في الشام بلد الجمال والود والوئام!

أجابت، وهي ما أعنيه من عظة:

- يا بنيي الشام شامة الدنيا، وكل بلاد على اهلها شام.

فالبلاد ليست عقارات للمتاجرة.

والثانية: حقق كاتب هذه السطور حلمه بعد حصوله على البكالوريوس في الهندسة المدنية وقطع بحر الظلمات ليلتحق بجامعة أميركية محترمة هي جامعة واشنطن بمدينة سياتل وحصل على درجة الماستر في الهندسة المدنية ثم درجة الدكتوراه، والتحق في مركز بحوث هندسية في ضواحي شيكاغو الشمالية ونشر بحثين في مجلات علمية شهيرة في مدةٍ وجيزة. وخطب فتاة أميركية في تشرين الأول عام 1970 إذ اتضح له أن فرصه في النشاط العلمي والمهني وتقدمه فيهما مفتوحة مصراعاه أمامه في الولايات المتحدة. ثم من حيث لا يحتسب وردته برقية من بلاده تقول بالإنجليزية ما ترجمته: "منذر حدادين- شيكاغو. احضر للبلاد حالاً. التوقيع: وصفي التل، رئيس الوزراء."

لم يكن لدى كاتب هذه السطور التزام تعاقدي مع الحكومة الأردنية فقد تجنّب إقحامها في المساهمة ولو بجزء من تكاليف تعليمه الجامعي، لكن التزامه المعنوي تجاه بلاده دفعه إلى طلب إجازة عرضية والذهاب إلى عمان على نفقته الخاصة. وقابل دولة رئيس الوزراء في مكتبه (وهو الآن مكتب أمين عام وزارة العدل) وكان الإثنان واقفين كون الرئيس في عجلة لتوديع الباهي الأدغم رئيس وزراء تونس في مطار ماركا. بعد الترحيب قال الرئيس بلهجة المحتج:

- شو بعدك بتسوّي بأميركا؟

- بشتغل في البحوث الهندسية ومساري واعد وأنا مبسوط!

- شوف، فيه في أميركا مليون واحد زيّك، إحنا ما عندنا ولا واحد، بدك تيجي يعني بدك تيجي، ونقي وين ما بدّك!

- دولة الرئيس أنا جايك، أعطيني بس أسبوعين ألملم شؤوني هناك.

وحضر كاتب هذه السطور دونما تردد، وعاد لأميركا ليتزوج خطيبته ويحضرها معه لبلادها الجديدة، وانتقل من رغد الحياة الفانية في منطقة شيكاغوإلى ضنك العمل الشاق في تطوير المملكة أقتصادياً واجتماعياً. فكأنما كانت برقية الرئيس ما يطلق عليه الغرب "نداء سابلة البراري Call of the wild"، إذ لم يفكر المرسل إليه لحظة في الاعتذار عن عدم قدرته الاستجابة لذلك النداء.

أما العبرة الثالثة: فكانت مستقاة من مناظر عودة أهل شمال غزة إلى ديارهم من جنوبها بعد اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.

رأيت في الجو طائرات من أحدث ما اخترعت تكنولوجيا أميركا يقودها أعداء الحضارة والحياة، وفي نفس الفيديو كان هناك "طنبر" تجره دابة ومحمل بعفش قديم بالي وأطفال فرحين في طريقهم إلى ديارهم، وعجبت كغيري كيف أن إرادة الغزيين وصبرهم ومقاومتهم تصدت إلى المذبحة التي ارتكبتها إسرائيل وحلفاؤها بحقهم، ثم كيف أنهم فرحون بالعودة إلى ديارهم! كان ضمن المشاة العائدين سيدة مسنة بثوب فلسطيني أنيق، تحمل على كتفها بعض الأغراض تبين منها مكنسة قديمة بعصاها، وهنا بيت القصيد والعظة:

- إذا لم تتنازل هذه المسنة المحترمة عن مكنسة خيمتها، فكيف يمكن أن نتصور أنها قد تتنازل عن بيتها وأرضها؟ وترحل عنهما إلى سيناء؟

وتذكرت أبيات أمير الشعراء:

وللأوطان في دم كل حرِّ يدٌ سلفت ودَيْنٌ مستحقُّ
ولا يبني الممالكَ كالضحايا ولا يدني الحقوق ولا يحقُّ
ففي القتلى لأجيالٍ حياةٌ وفي الأسرى فدىً لهم وعتقُ
وللحريّة الحمراءِ بابٌ بكلّ يدٍ مضرجةٍ يُدَقُّ