الدستور-منذر كامل اللالا
«في العالم العربي، الاغتراب هو الوجه الآخر للانهيار: انهيار القيم، انهيار الوطن، وانهيار الذات». جابر عصفور.
ظلّ الاغتراب، فكرا ورؤية وأحاسيس، حاضرا بقوة في الأجناس الأدبية العربية، خاصّة في الشعر خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وقد جاء هذا الحضور متأثِّرا بانتشار الفلسفة الوجودية في الأدب الغربي، وتجليّاتها في تيارات مثل السيريالية واللامعقول، لكنّه كان أيضا ابنًا لواقعه العربي الخاص المتمثل بالانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة، وبتهميش متزايد للإنسان، وتحويله إلى كائن مستهلك، منزوع الانتماء للوطن.
ومن هذا السياق، تنفتح رواية «أنا يوسف يا أبي» لباسم الزعبي، الصادرة حديثًا عن الآن ناشرون وموزعون، حيث يصدم الكاتب قُرّاءه منذ البداية عندما يمهِّد للرواية: «عندما أردت جمع شخصيات روايتي وجدتهم أشلاء، مَزّقت أجسادهم وأرواحهم الحروب والفساد والخيانة، لملمت الأشلاء وأعدت تجميعها...». إنها شهادة مفزعة على الخراب الذي يعيشه الأبطال، وانعكاس مباشر لانهيار الذات الفردية والجماعية تحت وطأة الحرب والتشظي.
في هذه الرواية لا يذوب المصير الفردي في المصير الجماعي، بل يسير بمحاذاته في خط متواز؛ فكل شخصية تحمل مسارها الخاص، متأرجحة بين القلق الوجودي والأحلام والخيبات، لكنها تلتقي جميعا في سيرة وجع عام يترك جراحا غائرة في النفوس، حيث تتحوّل المأساة الوطنية إلى ندوب شخصية مستعصية، وتصير الأوجاع المشتركة أوجاعًا فردية ملازمة تكشف عن عمق سردية الاغتراب التي تسكن الرواية، ومن هنا تتبدى أشلاء الاغتراب في فسيفساء الحكاية: فالرواية لا تقدّم مجرد سرد لحكايات متفرِّقة، بل تبني لوحة فسيفسائية يتشابك فيها الاغتراب بأشكاله المتعدِّدة: الأُسري، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، والديني، والجغرافي، والوجودي. وتتحرّك الشخصيات – وفي مقدِّمتها الأب عون والابن محمد – داخل متاهات من الانكسارات، يحمل كلٌّ منها ندوبه الخاصة، لكنها تتقاطع جميعًا في مرآة الخراب الجماعي الأشمل.
يُشكّل عون المحور المركزي للاغتراب في الرواية، إذ يغدو جسده وروحه ساحةً لكلِّ أشكال التمزّق؛ فبعد إحالته إلى التقاعد المبكر يبدأ اغترابه الاجتماعي والاقتصادي، فيجد نفسه في مواجهة فجوة طبقية وشعور حاد بالعجز المادي. يصفه الراوي بوضوح: «عون لم يكن لديه خيارات... أصيب بالكآبة، حقد على كلّ شيء: الشركة، والقطاع الخاص، والحكومة... ذلك القطاع الجشع والفاسد واللاإنساني»، ليجسّد هذا الحقد رفضًا لواقع قاس أخرجه من دائرة الإنتاج والفاعلية وحوّله إلى مجرد فائض لا حاجة له، كما سيقول لاحقًا لابنه محمد: «أنا فائض عن الحاجة في هذه الحياة»، ومن قلب الأسرة يتفاقم الاغتراب، إذ تصفه زوجته غالينا بقولها: «عون النار التي تحرقها من الداخل، ومحمد – ابنها – اللّهب الذي يلسعها من الخارج»، في استعارة نارية تكشف عن اغتراب ثلاثي تتقاسمه الزوجة والابن والزوج نفسه. هنا يتجلّى عون كروح مغلقة «صدفة كشفت لؤلؤها لمرة واحدة، ثم انغلقت»: رجل مثقل بالخذلان، مهمّش في مجتمعه، تضاعف عزلةُ الأسرة وانهيار روابطها من غربته الداخلية، حتى تغدو روحه كما وصفته غالينا: «نار خفية تحرق الروح... وكأنه صدفة كشفت لؤلؤها لمرة واحدة، ثم انغلقت».
ذروة اغتراب عون تتجلّى في منفاه الروسي، حيث ينغلق على نفسه، يتوحّد مع الفودكا، ويقرِّر أن يكتب «نعيًا لنفسه» على الإنترنت، في لحظة تعرّي وجودية تقوده إلى العدم.
اغتراب الابن «الحياة مع أهلي جحيم أكثر»، أما محمّد، فهو صورة الاغتراب المضاعف للجيل الجديد، خيانة والدته تحوله إلى صمت متورِّم ينهشه من الداخل، الموضوع يتورّم في رأسه، يكاد يفجره، يتدهور نفسيا وأكاديميا، ويجد في الموت منقذه الوحيد من الوجع، وفي روسيا، يتفاقم اغترابه: «عزرائيل لا يفارقني، أراه يشخص أمامي ماثلاً في كلّ الأشخاص الذين أعيش معهم»، وحين يحاول الانتماء إلى جماعات متطرفة، يكتشف اغترابًا جديدًا: «سأقاتل من؟ أنا لا أعرف ضد من سأقاتل اليوم»، هكذا يتحوّل التطرّف نفسه إلى فراغ، يفضح قمّة التّيه الوجودي المضاعف.
غربة الوطن: يتجسّد الوطن في الرواية ككيان مثقل بالفساد واللاعدالة، يتحوّل من فضاء يُفترض أن يكون حاضنًا، إلى مساحة طاردة تزرع في قلوب أبنائه مزيدًا من الغربة وفقدان الانتماء، يقول صالح بمرارة: «إذا كنّا نعرف أنّ أغلب الأغنياء في بلدنا جمعوا ثروتهم بطرق غير مشروعة... فأين نحن؟ وأي حياة نعيش؟»، وهو تساؤل يتجاوز حدود الحوار العابر ليكشف عن اغتراب طبقي عميق، وعن شعور حاد بالظلم والخذلان من وطن لم يعد بيتا للجميع، ومن خلال حوارات عون وصالح، ترتسم صورة قاتمة لمجتمع مأزوم، حيث الثروة حكر على قلّة، بينما يكافح الباقون للبقاء بكرامة. وفي عبارة تلخص المأساة، يردد صالح: «في ذلك الوقت حتى الوطن لم يكن ذاك البيت الأليف، الحنون، العطوف، ليس دائما الوطن ذلك الحضن الدافئ». هكذا يصبح الاغتراب في الرواية قدرًا جماعيا لا يقتصر على الأفراد وحدهم، بل ينسحب على الوطن نفسه، ليترك عون ومحمد – ومن ورائهما جيل كامل – أشلاءً مبعثرة لا تجد ملاذًا لا في أوطانها ولا في ذواتها.
الاغتراب الديني: بين التيه والعودة، لم يكن عون مكترثاً للدين، لكن موت والده يوقظ فيه حاجة روحية، يكتشف عون فجأة حاجته إلى الله: «ربي سامحني ... كنت تائها، ضائعا، ها أنا قد عدت» هذه المناجاة تكشف عن اغتراب روحي عميق، وعن بحث متأخر عن معنى في عالم متصدع مادي، فيكون الدين هنا كطوق نجاة ومساحة أمل وضوء في نهاية النفق.
غربة الموقف والتيه: يسأل محمد أباه: «لماذا أنت مصرّ على متابعة الأخبار؟»، فيجيب عون في داخله: «أين موقفي من كلّ ما يحدث؟ لماذا أنا بلا موقف، بلا فعل، لماذا هذه العزلة السياسية؟ أليس موقفي وموقف أمثالي السلبي هو ما جعل العالم يستبيح الدم العربي؟». هنا يتحوّل الاغتراب إلى سؤال وجودي عن المسؤولية والفعل في عالم ينهار.
الاغتراب المكاني: تبلغ ذروة الاغتراب عندما يسافر عون وعائلته إلى روسيا، حيث يصبح الاغتراب مضاعفاً: اغتراب عن الوطن واغتراب في المنفى، يشعر عون بالغربة حتى في الأماكن التي كان يعرفها: «لم يجرؤ على دخول معهد البوليتكنك الذي درس به، بدت بالنسبة له غريبة». حتى الأثاث في شقّة غالينا يصبح غريباً عنه، فيفكر جدياً في تغييره.
في الختام، تشكّل رواية «أنا يوسف يا أبي» مرثاة للاغتراب في زمن الفقد والضياع؛ فهي لا تمنح أجوبة جاهزة بقدر ما تطرح تساؤلات مؤلمة عن الإنسان الذي فقد صلته بأسرته ووطنه ونفسه، شخصياتها ليست مجرد ضحايا للفساد والحروب، بل هي أيضًا شريكة في صناعة اغترابها بصمتها أو بانسحابها؛ فعون يختار الانكفاء والانطفاء، ومحمد يختار الهروب إلى المجهول، وهكذا تتجسّد المأساة كمرآة كبرى لانكسار الذات وتشظّي المعنى، ويبقى سؤال صالح «أين نحن؟» معلقًا في الهواء، لا كصرخة فردية فحسب، بل كصوت جيل بأكمله يبحث عن مكانه في عالم لم يعد يمنحه أي معنى.