عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Apr-2025

عن الموقف من الثورة..! (2)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

ثمة عبارة يرددها بعض الفلسطينيين، ويستشهد بها آخرون لشتى الأغراض: “نريد أن نعيش فقط”.  وهو مطلب بديهي ومفهوم أمام آلة القمع والموت المسلطة على الفلسطينيين. ولكن في السياق الفلسطيني، حيث يستهدف المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني وجود الشعب الفلسطيني نفسه كهوية تاريخية، تصبح هذه الفكرة منقوصة، بل ومُضلِّلة، لأنها ستؤدي حتمًا إلى النتيجة المعاكسة تمامًا: الفناء التاريخي التدريجي الجمعي، تحت ستار النجاة الفردية.
 
 
ما يفعله المستعمرون الذين فقدوا إنسانيتهم وتحولوا إلى وحوش بكل المقاييس الأخلاقية والقانونية، هو محاولة الحفاظ على وجودهم المختلق “كشعب” يرتبط بوطن وأرض. يمكنهم ببساطة أن يعيشوا الآن، بعد أن كفَّروا “معاداة السامية” في الغرب، في أوطانهم الأصلية كمواطنين متساوين آمنين. يمكنهم أن يتخلصوا من العيش مع السلاح وكقتلة متسلسلين وضحايا ممكنين وكذّابين أشرين، إذا تخلوا عن فكرة “الأمة”، ولو أنها دموية تعيش على الخراب والموت. لكنهم يتعايشون ويخفون دمارهم الأخلاقي بموقف الضحية من أجل التشبث بتصور أنفسهم كـ”شعب”، شرط بقائه هو إخراج شعب آخر من التاريخ والاستيلاء على مكانه فيه.
 في الحالة الفلسطينية، يصبح البقاء بلا مقاومة خضوعًا لإرادة استعمارية استيطانية لا يمن أن تمنح الفلسطينيين خيار “الحياة” كحق، وإنما كامتياز مشروط بالطاعة والقبول بما يُرتّب لهم. والترتيب، كما يحتمه مشروع إحلالي، هو الادعاء بعدم وجود –والعمل كهدف وجودي على إلغاء وجود- الشعب الفلسطيني، بالتهجير، والقتل الجماعي ومحوه هو وآثاره من العالَم. وفي صراع هذه شروطه، لا يضمن التذرّع بالبقاء بلا مقاومة النجاة، بل يسهّل الاستئصال، بالمعنى التاريخي.
ثمة الذين يشيعون أن كفّ الفلسطينيين عن المقاومة يضمن لهم السلامة. لكنّ طبيعة العدو تقتضي حُكما أن لا يُفرّق بين من يقاوم ومن ينأى بنفسه. إنه يتعامل مع كل فلسطيني، مهما كانت حالته أو موقفه، كهدف مشروع لأنه غيابه يفسح مكانًا للإحلال. حدثت مذابح النكبة، ومجازر صبرا وشاتيلا، والقصف المتكرر على غزة قبل “الطوفان”، والقتل العشوائي في الضفة، جميعها ضد مدنيين عُزّل لا يحملون السلاح. وفي الضفة التي يرفع قادتها شعار “السلامة” لا أحد سالم من القتل والاعتقال والمصادرة والإذلال اليومي والضم الزاحف والتهجير -التهويد. لم يكن عدم المقاومة يومًا صمام أمان أمام نية الإبادة التي تقصد قتلك في كل الأحوال –فيزيائيًا وتاريخيًا.
المسألة الفلسطينية ليست مجرد مسألة بقاء أفراد، وإنما قضية وجود أمة بأكملها. ولم يخف المشروع الصهيوني يومًا، ولا يستطيع حتى أن يخفي نيته الإبادية القائمة على تصفية الوجود الفلسطيني، سواء بالترحيل القسري أو التهجير البطيء أو سياسات الحصار والتجويع والتضييق. ربما يُنقذ الفلسطيني الذي يرفض المقاومة طمعًا في البقاء نفسه مؤقتًا، لكنه يخون كيانه الوطني ولا يحميه من التلاشي. وهنا لا تكون المسالة موتًا فرديًا، بل موت شعب بأسره.
كما برهن التاريخ، كانت الشعوب التي قاومت، برغم التضحيات الجسيمة، هي التي فرضت وجودها وجنت ثمار نضالاتها. الجزائر، فيتنام، جنوب إفريقيا -كلها أمثلة على شعوب دفعت أثمانًا باهظة، لكنها ظلت حيّة لأن خيار المقاومة مكّنها من الاستمرار في الوجود. في الحالة الفلسطينية، ليست المقاومة مجرد رد فعل على القتل والاحتلال، وإنما هي فعل تأكيد وجود، ورفض لفكرة “البقاء المشروط” الذي يتحول في نهاية المطاف إلى زوال تدريجي، وحتمي.
لو كانت القضية الفلسطينية معركة من أجل البقاء الفردي لكان الفلسطينيون في المنفى قانعين “من الغنيمة بالإياب”، ولخرَج كل الذين يستطيعون الخروج من فلسطين ولم يعودوا إليها. ولأحرق “الناجون” موروثهم التراثي وألقوا بمفاتيح العودة في أعمق بئر وانتهى الأمر. ربما يكون أكثر شيء يندم عليه الفلسطينيون هو الخروج في العام 1948، حتى مع أن الذين خرجوا “نجوا”، بالمفهوم التثبيطي الذي يروج له البعض الآن. إن قضية الفلسطينيين هي معركة من أجل البقاء كشعب وكيان وهوية. هنا، يصبح شعار “نريد فقط أن نبقى على قيد الحياة” غير ذي معنى لكائنات بلا معنى عندما يكون البقاء قائمًا على فكرة “استسلم تسلم”. واستسلم تعني في هذا السياق، أرسِل إلى العدم كل علاقة أو مطالبات أو روابط أو ذاكرة تتعلق بشيء اسمه فلسطين، واختصر الطريق على الذي يريد احتلال مكانك وتحويلك –حيًّا- إلى تاريخ ماضٍ وآثار بائدة. لن يريد أي فرد أو شعب أن ينتهي به المطاف إلى هناك طوعًا.
التقيت ذات مرة بسيدة أميركية أصلية من نسل الهنود الحمر. وهي رسامة ومثقفة. لم يكن فيها ذلك الاعتداد الأميركي المتغطرس بالذات. كان فيها انكسار واضح. بعد كل هذه السنين، فهمتُ منها أن الكثير من السكان الأصليين في أميركا يحتفظون بهوية قوية مرتبطة بأممهم القبلية. ولكن، على الرغم من أنهم يحملون الجنسية الأميركية قانونًا، فإنهم ما يزالون يواجهون تحديات منهجية مثل الفقر، وصعوبة الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم، والنزاعات المستمرة بشأن الأراضي والحقوق المنصوص عليها في المعاهدات. وعلى المستوى الثقافي، ثمة فخر وتمسك بالهوية، لكن هناك أيضًا شعور أبدي بأن تاريخهم وحقوقهم قد همشت إلى الأبد. نعم، هم مواطنون، لكن علاقتهم بالولايات المتحدة معقدة، ضائعة بين الانتماء والظلم التاريخي.
ولكن، حتى خيار “المواطنين قانونًا” ليس متاحًا للفلسطينيين في “الدولة اليهودية الحصرية”. ومن المريع أن يستسلم هذا الجيل الذي ورث رعاية الأمل، ويشرع في إقناع الأبناء بالكف عن المقاومة والرضا بـ”العيش”، كما يوصي ساسة ومؤثرون ومداخلون في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي من الفلسطينيين و”المحبين”. ومنطلق هؤلاء لوم الضحية وإعفاء الجاني الواضح، مثلما يفعل أي عدو سافر لفلسطين.