عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Feb-2019

كيف يساهم إدمان العمل في اغتيال نفسيتك؟ - ماهر العتيبي
 
تُرى كيف ينظر مجتمعنا الآن إلى الأشخاص الذين يعملون بدأبٍ وجِدٍّ ولا يَجِدُون الوقت لأيّ حياة أخرى خارج إطار العمل؟ بلا شك أنهم سينظرون لهم نظرة المُعجِب، وسيصفونهم بالناجحون والمُسْتغِلون لأوقاتهم جيداً، وربما احتفوا بهم وجعلوهم قدوة ومضرباً للمثل، ولكن ماذا ستكون ردّة فعلنا حين نعلم أن الدراسات والباحثون يرون غير ذلك، ويرون أن هذا نوع من الإدمان السلوكي وهو "الإدمان على العمل"، وهو مظهر من مظاهر اختلال التوازن في حياة الإنسان؛ اختلال بين حياته وعمله بحيث تطغى حياة العمل على أي حياة أخرى لدى الفرد المدمن، وتبين أن هذا الإدمان ليس له علاقة بالحاجة المالية إذ كثير من المدمنين على العمل لديهم اكتفاء ماليّ ولكنهم منغمسون في أعمالهم بصورة غير صحية، ويوضح هذا المقال الأسباب الحقيقية وراء هذا الإدمان وماهي صفات هذا المدمن.
 
الإدمان على العمل والعلاقات الإنسانية
تنحسر العلاقات الاجتماعية للمدمن على العمل في ضمن إطار ضيق وهو بيئة العمل الذي يعمل فيها، وهذه العلاقات تظلّ سطحيّة جداً مهما طالت مدة العلاقة، أما علاقاته خارج إطار العمل فهي معدومة وهو دائم التذرّع بعدم وجود وقت لها، وفي الحقيقة هم يتهربون منها ومن كل التزاماتهم ومسؤولياتهم العائلية والاجتماعية، وهو دائمو التجنّب للظروف السلبية والمواقف الاجتماعية التي تسبب لهم التوتر والضغط النفسي، ولذلك فهم يُغْرِقون أنفسهم حتى آذانهم في العمل الطويل لتفادي تلك المواجهات والضغوط. فيحرمون أنفسهم من عمل علاقات اجتماعية وإنسانية حقيقية، حتى مع أقرب الناس حولهم، فيصبح العمل جزء من شخصياتهم والمَعْلَم الوحيد المُعَبّر عن كينونتهم وعلة وجودهم، ولأنهم قليلو الثقة بأنفسهم يعْتَبِرون العمل هو المكان الوحيد الذي يشعرون فيه بالثقة والتقدير من قبل الآخرين والاحترام، ويشكل العمل لهم الملجأ الوحيد للهروب من الشعور بالوحدة والعزلة واللّتان يتم تعويضهما داخل بيئة العمل بالشعور بالاهتمام والأهمية من قبل الزملاء والرؤساء. وكانت نتيجة ذلك أن العيادات النفسية حول العالم مليء بحالات لأشخاص ضاعوا وفقدوا أنفسهم واضطربت حياتهم حينما فقدوا وظائفهم سواءً بعد التقاعد أو قبله.
 
العلة الكبرى لدى المدمن على العمل؛ هي اعتقاده عن نفسه أنه غير كفء ولا يقدر على تحمّل المسؤولية، وهذه النظرة التي ينظر بها إلى نفسه تَحُول بينه وبين التطور والتقدم
اضطرابات الإدمان على العمل
وتشير بعض الدراسات أن هناك علاقة ذات دلالة بين الإجهاد في العمل وأمراض كثيرة مثل الأرق والاكتئاب والنوبات القلبية ومشاكل في العمود الفقري وغيرها، وقد يكون اتخاذ العمل الإدماني حيلة لتجنب بعض الاضطرابات النفسية وتخفيف من حدة التوتر الذي في داخلهم وسلوك لتفريغ الضغوط النفسية الداخلية، وذلك حتى لا يجد فراغاً ووقتاً يسمح للأفكار والأسئلة الملحّة في داخله أن تخرج، فهو يحاربها بإشغال نفسه بالعمل والحركة والكلام والنوم.. إلخ، وبالتالي فهو يهرب من نفسه ومواجهتها، ويذهب بعض المحللين النفسيين أن الإدمان على العمل الخارج عن السيطرة الذي يتخذ شكل السلوك القهري هو أحد أعراض المرض العقلي بلا شك، والناتج عن الإحساس بالفراغ الروحي، وهو تحول الإنسان إلى آلة خالية من أي مشاعر وإنسانيات وفاقدة للبوصلة في حياتها وتعيش بلا أهداف، ولا تشعر بأي لذة في أي شكل من أشكال الحياة.
 
 
 
الفرق بين المدمن على العمل وغيره
السؤال هل كلّ من يعمل بجد ولساعات طويلة هو "مدمن على العمل"؟ وما هو الحدّ الفاصل بين "المدمن على العمل" و"المُجد في العمل"؟ حقيقة ساعات العمل ليست مقياساً أبداً ولا يُلتفتُ إليها كما أظهرت بعض الدراسات؛ ولكن ما يلتفت له هو أفكار الشخص ودوافعه وتركيبته النفسية، فالمدمن يجد نفسه مدفوعاً بصورة قهرية للانغماس في عمله حتى خارج العمل يبقى العمل مستحوذاً على تفكيره من غير داعِ أو ضرورة، ويظل يفكر بالعمل أثناء راحته وبالعطل والإجازات، بينما غير المدمن يتحكم بإرادته في مقدار العمل ويستطيع أن يفصل بين عمله وحياته الشخصية وإذا تعرض لضغط عمل فله أسبابه وغالباً ما يكون للضّرورة وغالباً ما يكون مرتبط بإنجاز مهمّة معينة ذات وقت معين، ويفكر أثناء عمله وضغوطاته بالراحة وينتظر بفارغ الصبر أيام العطل والإجازات.
 
 
 
المدمن على العمل لا يشعر بالمتعة أثناء عمله بل ربما يقوم ببعض الأعمال التي ترهقه فيصبح كالذي ينْتَقم من نفسه ويعذّبها، وغير المدمن يستمتع بالعمل مهما كان مرهقاً لأنه يعلم أن هذا الضغط لظروف معينة ومؤقتة. ومن جانب آخر فالمدمن لا يعطي أي أهمية للترويح عن النفس أو المشاركة في أي أنشطة ترفيهية اجتماعية بل ربما ينظر إليها على أنها مضيعة للوقت وللناس الفارغين، في حين يرى غير المدمن عكس ذلك فهو يروّح عن نفسه ويشارك بالأنشطة الترفيهية.
 
المدمن والإنتاجية
العلة الكبرى لدى المدمن على العمل؛ هي اعتقاده عن نفسه أنه غير كفء ولا يقدر على تحمّل المسؤولية، وهذه النظرة التي ينظر بها إلى نفسه تَحُول بينه وبين التطور والتقدم، فالمدمن على العمل حقيقة إنسان ليس صاحب بصمة وغير منتج مهما أظهر لنا من نشاط وقدرة على تَحمّل ضغوط العمل المختلفة، وهذا لا يعني أنه فاشل بكل المقاييس ولكن لا يعتمد عليه في كل شيء وخصوصاً في المهام المفتوحة، وهو دائما ما يتخذ الطرق الأطول وقتاً والأعقد في حل المشكلات ولا يعرف البساطة، وهو تقليديّ جداً وغير مبدع بطريقة أداءه للأعمال، ذلك لأن مشكلته الأساسية مع الوقت وكيف سيَمْضِيه فإذا انجز ما أُوكل إليه من أعمال شَعَرَ بالفراغ وبأنه غير موجود أو ليس هناك حاجة له، فهو طويل البال ومتريّث لِحدّ الملل، ولو جاء موظف آخر أقل خبرة منه وذكاءً لأنجز العمل بنصف الوقت أو ربما أقل، والمدمنون على العمل يحبون الروتين والأعمال المملّة ولا يبالون، ويحبون تنفيذ الأوامر والأعمال المحددة بدقة والمرسومة من قِبَلِ آخرين ولا يفضّلون الأعمال التي تترك لهم الأمر مفتوحاً في اختيار طريقة التنفيذ واتخاذ القرارات، وذلك لقلة ثقتهم بأنفسهم ولفقرهم لروح الإبداع والقيادة.
 
خاتمة
وختاماً فالعمل الإدماني ضرر وإرهاق نفسيّ وبدنيّ على النفس، ولا يتخذه أسلوبَ حياةٍ هروبيٍّ إلا أصحاب الوعي المتدني الخالية حياتهم من الأهداف الحقيقية، وهؤلاء بفعلتهم هذه يعطّلون على أنفسهم فرصة النّمو النفسيّ والروحيّ والفكريّ وبذلك يفقدون جزءاً كبيراً من روحهم وإنسانيتهم، ولا أسْلمَ من التوسّط والتوازن في الحياة بين حاجاتنا المتنوعة فمنها الروحي والعقلي والعائلي والاجتماعي والمالي، ويؤدي التركيز في جانب معين اختلالاً في حياتنا، وعلينا التخلص من الفكرة السائدة في المجتمع والثقافة القائلة: "أن العمل بجهد كبير ولساعات طويلة وبشكل إدماني هو نوع من البطولة والذكاء والتميّز، لأنها حتماً تُخْفي خلفها نفوس مضطربة تحاول فقط أن تملئ الزمن والفراغ"، وعلينا أن نعيد تعريف الحياة من جديد، وأن نعيش حياة يكون فيها العمل جزء منها وليس العكس، وأن نجد أنشطة يومية نستمتع بها وهوايات صغيرة ذات خصوصية ولا نحرم أنفسنا من الترويح عنها بين الفيْنة والأخرى، ذلك حتى نسمح لأنفسنا بالنّمو نفسيّاً وروحيّاً، ولكي لا نحرمها من الترقّي إلى مستويات أسمى من الوعي بأنفسنا وبالحياة.
 
الجزيرة