القدس العربي-صلاح عبد الستار الشهاوي
اللغة العربية نسيج وحدها لا تشبه لغة من اللغات، ولا تشبهها لغة من اللغات، من حيث أن المادة فيها تدور حول معنى واحد، بمعنى أن كل مادة في العربية تدور حول معنى واحد مهما تصرفت! وتلك ميزة عزت أن تكون في لغة من اللغات إلاَّ في اللغة العربية، رغم أنك إذا نظرت إلى اللغة العربية من ناحية الألفاظ التي يستقل كل منها بصورة ومعنى، وجدت أنها من أقل اللغات الكبرى من هذه الناحية، فألفاظ العربية لا تصل إلى ثلثي ألفاظ الإنكليزية، هناك ما يزيد على ألف كلمة عربية تستخدم في اللغة الإنكليزية، خاصة في مجالات الطب والكيمياء والفلك والبيولوجيا والجراحة، كما أن هناك آلافا أخرى مشتقة من هذه الكلمات انتقلت من العربية بعد التحريف، كما يقول المستشرق الإنكليزي تيلور في كتابه «كلمات عربية في اللغة الإنكليزية». وفي الفرنسية هناك سبعمئة كلمة عربية دخلت اللغة الفرنسية كما يقول المستشرق البلجيكي هنري لمنس، ونصف ألفاظ الإسبانية، التي يقال عنها إنها أغنى لغات أهل الأرض من حيث عدد الألفاظ، مع الأخذ في الاعتبار أن الكلمات العربية الموجودة في اللغة الإسبانية تعادل ربع كلماتها، كما يقول المستشرق أنجلمان والمستشرق رينهارت دوزي في كتابهما «معجم الألفاظ الإسبانية والبرتغالية من أصل عربي» ولكننا إذا حسبنا الاشتقاقات أو المشتقات ألفاظاً، فإن لغتنا العربية أوسع لغات أهل الأرض لفظاً.
ففي العربية نستطيع أن نشتق من الأصل الثلاثي أو الثنائي الواحد، أي عدد من الألفاظ نحتاج إليها لمطالب حياتنا، على أن تُراعي قواعد الاشتقاق وأصوله، فإلى يومنا هذا ما زلنا نشتق ألفاظاً وننحت أخرى، فمثلاً: صيغة تفعيل، التي نصوغ اليوم في قالبها كثيرا جدا من الألفاظ التي نحتاج إليها في مطالب الحياة والحضارة اليوم مثل: ترشيد – تأميم- تسييس- تعويم- تقييم- تكوين- تسمين- تبريد- تسويق، إلخ. إلى جانب الألفاظ القديمة الكثيرة الاستعمال. من هذه الصيغة: تعليم ـ توليد- تهذيب- تثقيف- تحكيم، إلخ.
فإذا أضفنا إلى ذلك القدرات اللغوية للسان العربي التي تتمثل في:
– السمة الاشتقاقية وخضوعها لخطة الاشتقاق الوزني.
– سمة (الارتباط بين الوزن والمعنى).
– الاطراد في نظام أفعالها.
– منطقيتها في تقسيم المذكر/ والمؤنث.
فإننا نجد أن اللغة العربية قابلة للانتشار والتمدد بسبب:
أولاً- نظرة قطاع كبير من متحدثيها الأصليين بها إليها، وإيمانهم بوضعها المميز وقيمتها الكبيرة.
ثانياً- تحرك اللغة العربية نحو المستقبل مدعومة بنجاحات تراثية في تحمل مضامين الوحي والشريعة والحضارة.
ثالثاً- استصحاب نجاحات تاريخية في استيعاب علوم اليونان والسريان.
رابعاً- النجاحات الراهنة في المؤسسات العالمية.
إن الفحص العلمي، للغة العربية، وتحليل نجاحاتها التاريخية والمعاصرة يكشف عن حيازة اللغة العربية لخصائص: المرونة/ وثراء الرصيد المعجمي/ والاستجابات للتحدي.
وهذه جميعاً تخطو باللسان العربي نحو منصة اللغات العالمية المتزايدة الانتشار من منظور المستقبليات. ومن هذا التفرد نجد أن الألفاظ في اللغة العربية لها أصل ترجع إليه يمثل المادة الأصلية، التي تدل على المعنى المصدري، ثم تُشتق من هذا الأصل ألفاظا أخرى كثيرة للدلالة على معان متعددة بزيادة بعض الحروف، أو نقصها، أو تغير الحركات، ومع ذلك فكل طائفة من الألفاظ تدور حول معنى عام يجمعها، وكأنها مجموعات أسرية تتلاقى كل منها في إطار واحد، وتتجانس وتتشاكل إلى حد يمكن منه معرفة الشقيق والغريب والدخيل، ويمكن منه كذلك معرفة نشوء اللغة، وكيف تطورت معالم ألفاظها ومعانيها وارتباطها بعضها ببعض. والاشتقاق يكشف هذه الحقيقة، فلو تتبعنا مادة معجمية ودرسناها وأمعنا النظر في المعاني التي تدل عليها ألفاظها، لوجدناها ترتبط بمعنى عام يشمل هذه المعاني ويعد مركزاً لها تتفرع عنه وتدور حوله.
هذا ما جعل ابن خلدون (732- 808هـ/1330-1406م) يقول بصدد حديثه عن علم النحو ضمن كلامه عن علوم اللسان العربي لهذه الأمة الأمية: «به – أي بعلم النحو- يتبين أصول المقاصد بالدلالة، فيعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة، لأن الإعراب يدل على الإسناد والمسند والمسند إليه». وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد، لدلالة غير الكلمات فيها على المعاني، مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور- أعني المضاف- ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى، ولا يوجد ذلك إلاَّ في لغة العرب. أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطبتهم أطول مما نقدره بكلام العرب، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً» (صحيح مسلم) فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيئات اعتبار في الدلالة على المقصود، غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون من ذلك منها وإنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.
اللغة العربية والحب
إذا تركنا الاشتقاق وأردنا اتخاذ مثالاً لدوران المادة في اللغة العربية وتعدد مسمياتها ولو اخترنا مثلاً كلمة: الحب، لوجدنا أن هناك ترابطا وثيقا بين كلمة الحب (الحبّ: على ما ورد في لسان العرب للإمام العلاّمة ابن منظور (630هـ – 711 هـ): «نقيض البغض، والحب الوداد والمحبّة. والجذر (ح. ب) ينطوي على معنى الإقامة. يقال حبَّ إذا وقف، وحبّ إذا تودّد. فلقد كانت العرب إذا احتفوا بالمسمى عددوا أسماءه، وهذا ما أشار إليه اللغويون القدماء ومنهم ابن قيم الجوزيه في كتابه «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» حين علل تعدد الأسماء بتعظيم المسمى، فلله تسعة وتسعون اسماً. وللحب من المفردات في اللغة العربية التي تتقارب معناها وتتقاطع وتصبح من المفردات المترادفة أو المتقاربة في هذا الموضوع والقابلة للتأويل والانتقال من حال إلى حال ما يشي بعبقرية اللغة العربية.
وقد أحصى ابن القيم للحب خمسين اسماً من كلام العرب، وقال عنها إنها الأسماء الدالة على الحب على نحو يحاكي تصاعد هذه العاطفة، وهي:
المحبة (المحبة: غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب. وقيل إنها مشتقة من اللزوم والثبات، ومنه: أحب البعيرُ، إذا برك فلم يقم). والعلاقة والهوى (الهوى: العشق يكون في مداخل الخير والشرّ. قال اللغويون: «الهوى محبّة الإنسان الشيء وغلبته عن قلبه». قال الله عزّ وجلّ في كتابه: «ونهى النفس عن الهوى» (النازعات:40) «وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى». (النجم: 3) لذلك فغالباً ما يأتي الهوى موصوفاً ويحدد الوصف له معناه، والهوى أدنى مرتبة من الحب، لأنه ينطوي على معنى ـ سقط ـ ويكون في مداخل الخير والشرّ). والصبوة والصبابة والشغف والوجد (الوجد: يقال للحب الشديد، وله صلة بمعنى الحزن، وصلة باليسار والسعة، والوجد تصعيد في الحب ومرتبة أعلى من العشق) والكلف والعشق (العشق: من الجذر (ع ش ق) وهو – فرط الحبّ- والعَشق لزوم الشيء لا يفارقه. ولذلك قيل للكلف عاشقاً للزومه هواه. سئل أبو العباس أحمد بن يحيى، عن الحب والعشق أيهما أحمد؟ فقال الحبّ لأن العشق فيه إفراط. وسمي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدّة الهوى كما تذبل العشقة إذا قطعت. والعشقةُ شجرة تخضر ثم تدق وتصفرّ. «والعشق هو إفراط المحبة، فإذا عم الحب الإنسان بجملته، وأعماه كل شيء سوى محبوبه، وسرت تلك الحقيقة في جميع أجزاء بدنه وقواه وروحه، وجرت فيه مجرى الدم في عروقه ولحمه، وعانقت جميع أجزائه جسماً وروحاً، ولم يبق فيه متسع لغيره.. حينئذ يسمي ذلك الحب عشقاً» (الشيخ محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية) «إذا ابتليت بقطع طريق العشق فكيف يمكنك حلّ أسراره؟ وإن ابتليت بقطع طريق العشق، فألق بأسلحتك لما أنت فيه من بلاء» (فريد الدين العطار، منطق الطير) والعشق: مرتبة أعلى من الحب لأنه من فرط الحب وملازمته). والجوى والدنف (الدَّنَف: المَرضُ المُثْقِلُ، دنِف العاشقُ: تهالك في حبّه فمرض) والشجو والشوق والخلابة والبلابل والتباريح والسدم والغمرات والوهل (الوهل: الفزع والهلع) والشجن واللاعج (لعَج الحُبُّ والشَّوْقُ فؤادَه: أحرقه وآلمه لعَجه الحزنُ) والاكتئاب والوصب والحزن والكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة والتبالة واللوعة والفتون والجنون واللمم والخبل والرسيس (الرَّسِيسُ: الشيء الثابت الذي لزم مكانه، رَسَّ الغَرَامُ فِي قَلْبِهِ: دَخَلَ، ثَبَتَ) والداء المخامر والود والخلة والخلم (ليس الخلم بمعنى الحب، بل هو بمعنى الصاحب والخدن) والغرام (الغرام: الولوع، من الجذر (غ ر م ) غرم الرجل حمل ديناً. منه قوله عزّ وجل: «والغارمين وفي سبيل الله» (التوبة: 60) وقد أغرم بالشيء أولع به وهو الحبّ والعشق، مرتبط بالعذاب الدائم والشرّ اللازم. قال تعالى في كتابه: «إن عذابها كان غراماً» (الفرقان: 65) وتقول العرب: «إن فلاناً لمغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن») والهيام والتدليه والوله والتعبد.
أما إمام اللغة أبو منصور الثعالبي فرتب مفردات الحب حسب تصاعد العاطفة فقال: أول مراتب الحب الهوى، ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب، ثم الكلف وهو شدة الحب، ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب، ثم الشغف وهو إحراق الحب اللب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، فإن تلك حُرة الهوى وهذا هو الهوى المُحْرق، ثم الشغف وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب، وهي جٍلدة دُونه وقد قرأنا: «شغفها حبا» (يوسف: 30) ثم الجوى، وهو الهوى الباطن. ثم التيم، وهو أن يستعبده الحب، ومنه سمي تيم الله، أي عبدالله، ومنه رجل متيم، ثم التبل، وهو أن يسقمه الهوى. ومنه رجل متبول. ثم التدليه، وهو ذهاب العقل من الهوى، ومنه رجل مدله. ثم الهيوم، وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هائم.
وعند ابن حزم الأندلسي صاحب كتاب «طوق الحمامة في الألفة والآلاف» الحب منازل ومراتب متعددة، أول مراتبه الهوى: وهو الميل إلى المحبوب، ويليه الشوق: وهو نزوع المحب إلى لقائه، ثم الحنين: وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب: وهو أول الألفة، ثم الشغف: وهو التمني الدائم لرؤية المحبوب، ويليه الغرام: وهو التعلق بالمحبوب تعلقاً لا يستطيع المحب الخلاص منه، ثم العشق: وهو إفراط في الحب ويغلب أن يلتقي فيه المحب والمحبوب، ثم التيتم: وهو استعباد المحبوب للمحب، يقال تيمه حباً، ويليه الهيام: وهو شدة الحب حتى يكاد يسلب المحب عقله، ثم الجنون: وهو استلاب الحب لعقل المحب. وتتكرر مع مراتب الحب كلمات مثل: الولع: وهو شدة التعلق بالمحبوب، والشجن: وهو الهمّ والكرب، واللوعة: وهي الألم، وتباريح الحب: وهي شدائده، والجوى: وهو كتمانه والضيق به، والكمد: وهو الحزن الشديد، والوجد: وهو الصبابة وشدة الحب، والوله: وهو التحير من شدة الوجد، والكلف: وهو الاستغراق في الحب.
– وعلى الإجمال لو وضعنا «الحب» في وسط هذه المنظومة من المفردات، لرأينا أنه مرتبط بالإقامة والألفة. لذلك سمّى العلامة ابن حزم الأندلسي كتابه في الحب «طوق الحمامة في الألفة والآلاف». يقول العقاد في كتابه «اللغة الشاعرة»: «تعتبر اللغة العربية في مقدمة اللغات جميعاً، تعبيراً ودلالة، وتصويراً للمجتمع الذي لهج ـ ويلهج- بها، ففي ألفاظها التي قطعت الأزمان التاريخية المتطاولة ما يدل على أصلهم وتاريخهم وعقليتهم، فالكتابة والشكل والرسم والبلاغة والفصاحة والدلالة نفسها ككلمات مستعارة من حياة أقوام رعاة وقبائل مترحلة، فالكتابة والشكل: بمعنى القيد، والرسم: أثر خطو الإبل على الرمل الذي زال رغوه، والدلالة للقافلة كالدلالة في الكلام». وتلك صورة من صور التمام اللغوي الذي اتسمت به لغتنا الخالدة، ولم يكن هذا التمام الكلي الشمولي الجامع للغة العربية ناجماً عن تطور تكاملي تدريجي متنام، استغرق أزماناً تاريخية مديدة، كما لم يكن ناتجاً عن عمل تشكيل مصنوع، نشأ على أيدي علماء اللغة، وإنما كان شيئاً ذاتياً مطبوعاً، فُطرت عليه هذه اللغة منذ أن وجدت، ولازمها طوال حياتها، وسيكون ملازما لها إلى أبد الأبدين إن شاء الله.