عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Mar-2020

“إلى ما قبل بابل” لخالد البلوشي.. رحلة فكرية عبر قصص مترجمة

 

عمان-الغد- يسعى العُماني خالد البلوشي، في مشروعه الجديد “ترحال عبر قصص مترجمة”، الذي يتكون من ثلاثة أجزاء: “إلى ما قبل بابل”، “إلى ما بعد بابل”، “تقويض بابل”، إلى رصد التفاعلات الداخلية للغة حين تخرج من إطارها المحلي نحو ثقافات أخرى، وإلى رفد المكتبة العربية بمجموعة من الأعمال الإبداعية التي كُتبت باللغة الإنجليزية، وألّفها عدد من المبدعين الذين ينتمون إلى دول تتّخذ الإنجليزية لغة أمّاً، أو لغة ثانية، أو لغة أجنبية.
الثلاثية الصادرة عن الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن، جاء الجزء الأول منها “إلى ما بعد بابل” في مائتين وسبع وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، وحفل باثنتي عشرة قصة من أربع دوائر حضارية، مثلت أولاها دولا غربية مثل أميركا وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزلندا، والثانية دولا إفريقية مثل نيجيريا وزامبيا، والثالثة دولا آسيوية مثل الهند وسنغافورة، بينما جاءت الرابعة من دول كاريبية مثل هاييتي.
وقد مثلت المجموعة رغم هذا الامتداد الجغرافي عالماً أحادي اللغة (قبل بابلي)، في محاولة من البلوشي للحصول على “ثيمة” موحدة تكشف عن الطريقة التي تتطور بها اللغة، حين يمتد نطاق استخدامها إلى خارج الدائرة الضيقة التي تقصرها على الناطقين بها بوصفها لغة أولى لهم، وهو الشيء الذي ينقص المكتبة العربية بحسب البلوشي. ويكمل قائلا “إن هذا التنوع يأتي ليسد هذه الثغرة؛ فهي تقدم قصصا قصيرة من آسيا وإفريقيا وأوروبا وأميركا والبحر الكاريبي، وتتوزع القصص على أجزاء عدة، يمثل كتاب “إلى ما قبل بابل” -أحادي اللغة- أول هذه الأجزاء”.
وهذا التوزيع هو عمل إجرائي في نهاية المطاف؛ لأن الإنسان سواء كان أحادي اللغة أم متعدد اللغات، يبقى غريبا ومنفيا أينما كان وكيفما كان. ومأتى غربتنا هو إنسانيتنا، فنحن نفوس لا تتسق على منوال، ولا تطّرد على حال.
أما الكتاب الثاني “ما بعد بابل” الذي جاء في مائتين وخمس وستين صفحة وحفل كذلك باثنتي عشرة قصة، فيطّرد على الخط نفسه، مع إضافة مهمة، هي اختياره نصوصاً لكتاب بريطانيين وأميركيين، لكنهم يعودون إلى أصول آسيوية وإفريقية، أو نصوصا أخرى تدور في فلك الحضارة الغربية والحداثة بينما كتابها ينتمون إلى دول من خارج الدائرة الجغرافية الغربية.
ويرى البلوشي أن ما يجمع هذه القصص بقصص الكتاب الأول هو أنها تُصنف بوصفها “أدب ما بعد الكولونيالية”، فتخوض فيها شخصية البلدان التي خضعت للاستعمار تركة الحقبة الاستعمارية بـ”هجنة” فيها عناصر من الثقافة المحلية وأخرى من ثقافة المستعمر.
لكن ما يميز قصص الكتاب الثاني، أن التفاعل فيها بين الثقافة المستعمِرة والثقافة الخاضعة للاستعمار يأخذ وجها صداميا أحيانا، لكنه لا يفضي إلى نصرة ثقافة على أخرى، بل يخلق فضاء ثالثا تتجلى فيه الخبرة الإنسانية متشابكة متداخلة ملتبسة غامضة؛ فالقارات والدول والهويات تعجز عن احتوائها.
هذا التوجه لا يأتي من فراغ، وإنما من خلفية فكرية أقرب إلى الاحتفاء بالاختلاف والشك والتردد منها إلى تمجيد الائتلاف واليقين والحسم؛ فاليقين والحسم يقتضيان كائنات لكل فرد منها شحصية صلدة صماء، أما الأدب فهو يعامل الإنسان برزخاً و”مابينية”، مثلما تكشف عنه قصص الجزء الثاني.
وهنا يطرح البلوشي سؤالا: هل لهذه الترجمات دور يمكن أن تؤديه في الحراك الثقافي العربي المعاصر؟ ذلك أن المتعة أو الدهشة الأدبية مخاض نُعرَّض فيه لخلاف مألوفنا بوصفنا كائنات اجتماعية؛ إلا أن المعرفة والألفة ليست عملية إدراك مجردة نقايس بها خبراتنا الجديدة على ما ترسخ في أذهاننا من افتراضات مسبقة، وإنما هي حكم وموقف؛ فما عُرف -بحسب موروثنا- وجب تبنيه، وما لم يُسمع به كان شرا وجب تجنبه، والحال أن الخير والشر يفسران بطرائق مختلفة، وكل تفسير محكوم بزمانه ومكانه، وبما فيهما من متغيرات آنية؛ إلا أن التصور السائد عندنا أنهما منتجان صلدان أصمان.
ومنظومتنا الثقافية السائدة في عالما العربي الإسلامي تفصل المعنى عن صانعه؛ فالحق ليس ما تفهمه بحسب سياقك، زمانا ومكانا، وإنما هو منتج موضوع فيما عُدَّ منبعه الأصلي، فإن اختلف فهمك عن ذلك المنتج كان خطأ أو انحرافا أو ضلالا (فيك) بحسب درجة الاختلاف. وقوام ذلك كله توحيد المعنى برده إلى ما عدت ماهيته.
وفي سياق الإجابة عن السؤال، يرى البلوشي في الجزء الثالث “تقويض بابل” الذي جاء في مائة وخمس وعشرين صفحة، وجعله تحليلا للجزئين السابقين، أن التشظي والاضطراب هو الأصل، أما الثبات والتماسك فهو اصطناع؛ وبهذا الأخير نأتي بتصنيفات على شاكلة الأنا والآخر، الشرير والخيّر، المؤمن والكافر، الشرقي والغربي، هذه الثنائيات ومثيلاتها ليست كتلا وجودية صماء صلدة، وإنما هي فروض مسبقة إذا انعدمت انعدمنا، وإذا وُجدت وُجدنا، على أننا نحن الأفراد إن كنا أثرا لهذه الفروض فنحن أثر فيها في آن، فنحن بهذه الجدلية يخلق بعضنا بعضا، شأننا في ذلك أفرادا هو شأننا طقوسا وأعرافا، نخلقها وتخلقنا.
والخلاصة -بحسب المؤلف- أن اختلافنا واختلاجنا وتأرجحنا وتذبذبنا وخرفنا وبلهنا وهوسنا صوت كبت أُلبس السيئ من الأسماء، صوت إن أعرناه سمعنا كان مهمازا لنا لأن نسائل أنفسنا، مؤنبين موبخين إيانا على خمولنا ذهناً ومسلكاً؛ فنحن الأفراد أقرب إلى الكمال مبددين كل ما بُني على الأرض من أبراج وأيقونات منا إلى الاتكاء على علم راسخ وإقامة صرح ثابت.
وخالد البلوشي أديب ومترجم عُماني، صدرت له مجموعة من الترجمات والأعمال الإبداعية والنقدية، مثل:”عُمان في عيون الرحالة البريطانيين”، ترجمة مختارات من خمس مجموعات شعرية عُمانية، هذا الليل لي لهلال الحجري (مترجم من العربية إلى الإنجليزية)، “جندي في مسكن شهد الذاكرة”، “استشراف التجربة العُمانية في جوادر”، “في القصيدة العُمانية الحديثة، نحو نقد ثقافي”، “الرواية العُمانية في ميزان النقد الثقافي”، وديوانا شعر هما: “سماوات دامسة” و”بوح خالد آل خالد”.