عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Sep-2022

الصحافة المحترفة، والهاوية..!* علاء الدين أبو زينة

 الغد

لفتت انتباهي محتويات مدونة الصحفي البريطاني المتميز بيتر هونام. كان هونام هو الصحفي الذي فضح البرنامج النووي للكيان الصهيوني في صحيفته، «صنداي تايمز» في العام 1986. وكان قد تعقب الفني الساخط الذي عمل في مفاعل ديمونا، موردخاي فعنونو، وأقنعه بمنحه قصة المفاعل والصور. ولم يكتف هونام بنشر قصة المفاعل، وإنما تعقب بعد ذلك جاسوسة الموساد التي أوقعت بفعنونو واستدرجته ليعاد ويحاكم في الكيان، ونشر قصتها وأسقطها هي الأخرى.
عندما يصدر عدد من صحيفة وفيه قصة مثل الكشف عن برنامج نووي سري لدولة، أو فضيحة مثل «ووترغيت»، أو رسومات للهيكل التنظيمي لـ»داعش» بيد راسمها، فإنه لا يكون إصداراً عادياً. والصحيفة لن تعود في اليوم التالي كما كانت قبله. سوف يكون جمهورها العالم، وسوف يُغير عملها نظرات، وسياسات، وأقداراً. ويمكن فقط تخيل المكافأة المعنوية –والمادية- للصحفي والصحيفة عند نشر قصة من هذه النوعية.
هل نحن في الصحافة العربية عاجزون عن إنتاج «سكوبات» بهذا الحجم؟ نعم، ولا. نعم من حيث الإمكان. مثلما هناك مهنيون عرب مبدعون في كل مجال، لا بد أن لدينا صحفيين موهوبين ومؤهلين، يمتلكون ما يكفي من الحدس والذكاء وشغف المهنة والإيمان برسالتها ليغامروا وينتجوا قصصا مهمة. ثم، أي مكان في العالم يختزن من القصص الصالحة للاستقصاء أكثر من العالم العربي؟ إنها على قارعة الطريق –حرفيا.
و، لا. لأن الصحافة أكثر «السلطات» استهدافاً بالمراقبة والتخويف والتدجين في العالم العربي. في بريطانيا، صديقة الكيان المعلنة، كان إجراء تحقيق استقصائي عن سر الكيان النووي وقرار نشره عند هيئة تحرير الـ»صنداي تايمز». بل إنه كان –حسب هونام- لدى رئيس تحرير الصحيفة الذي كانت مخاوفه عملية فقط: ما قد يجلبه احتمال عدم صحة القصة على مهنته وسمعة صحيفته. لم يذكر هونام أن الحكومة البريطانية «عاتبت» الصحيفة أو الصحفي أو هيئة التحرير. وفي أميركا، لم يُلاحق الصحفيان، كارل برنستين وبوب وود ورد، بسبب كشفهما «ووترغيت»، حتى مع أنهما أسقطا رأس الدولة نفسه والكثير من النافذين.
في الصحافة العربية، لا يستطيع الصحفي أن يلاحق قصة فيها نافذ، أو مسؤول، أو ثري، أو حتى رأسمالي تبيع شركته للمواطنين أغذية فاسدة. والقاعدة: ليس كل ما يُعرف يقال. ولأن معظم ما قد يُعرف يجب أن لا يُقال، يفقد الصحفي الجدوى من بحثه ولا يجريه من الأساس. أما إذا أفلت شيء ووصل إلى النشر، فسوف يلاحق الصحفي بتهمة الإساءة إلى السمعة الشخصية، أو سمعة البلد، أو حتى تهديد الأمن القومي، حتىلو كانت لديه كل الأدلة والوثائق. سوف يُفصل الصحفي المعني في الحد الأدنى، وقد تُغلق الصحيفة، أو تُقاطع أو تُستهدف. وقد عزز التخويف نزعة الرقابة الذاتية للصحف والصحفيين بحيث لم يتركوا لأنفسهم متسع للاستدارة ورؤية الجهات.
وهناك الإمكانيات المادية. ليست الصحافة المهمة سلعة بلا كلفة مادية. من أجل قصة فعنونو، سافر هونام وراءه إلى أستراليا، ثم جلبه إلى بريطانيا ليُخضِع قصته لفحص خبراء. وساعد هونام فريقٌ استقصائي محترف. ودُفع مبلغ كبير لفعنونو نفسه. ومن المؤكد أن قصة فعنونو التي نُشرت في صفحتين كلفت الكثير، لكن المردود التجاري والمعنوي -المباشر وطويل الأجل- للصحيفة كانا حتما أكبر بكثير.
في المقابل، لا يمكن توقع أن تنتج صحف تكافح لدفع رواتب كوادرها الأساسية منتجا صحفيا مهما من أي نوع –ناهيك عن الدفع لتحقيق استقصائي مهم. وسوف ترى الصحافة الفقيرة –التي يزيدها فقرا محتواها غير الجذاب تسويقيا- أن تكتفي بإنتاج الحد الأدنى مما يبقيها على قيد الحياة. وسيكون التحقيق الاستقصائي أول الضحايا، باعتبار أنه مكلف ماديا، ومصدر مؤكد للصداع اعتباريا.
يكتب هونام في مدونته: ‏»من المحزن أن جزءا صغيرا فقط من مجتمع الصحافة والبث لديه الرغبة أو الموارد للتحقيق في الأخطاء، والمظالم، والآفة الجديدة المتمثلة في المعلومات المضللة. وهذا صحيح الآن بشكل خاص بينما أخوض في مستنقع الاحتيال في الشرق الأوسط، أكثر مما كان عندما ظهر أول سبق صحفي متواضع لي في صحيفة محلية في العام 1972».
‏ويضيف: «التكلفة عامل، لكنها في النهاية ليست عذرًا. يقع على عاتق وسائط الإعلام واجب فضح الأخطاء وتوفير الوسائل اللازمة للقيام بذلك. ذلك يجعل مجتمعاتنا أفضل، وهو السبب في قول نابليون: «إننى أخشى ثلاث صحف أكثر من مائة ألف حربة». كما أنه مبرر من الناحية التجارية، لأن الصحافة الاستقصائية الجيدة تبني الانتشار وتعزز التقييمات».‏
باختصار، لا يترك المتاح لعمل الصحافة العربية، لمختلف الأسباب، سوى اللعب في منطقة الهواية، مثل لاعب الدومينو بالحجارة مع الرفاق على جانب الطريق. إنها لا تطمح إلى النجومية، والتأثير، وإحداث الفرق الذي تملك الإمكانية لإحداثه. ولها حرية التصرف بالباقي.