عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Jan-2021

في رد الاعتبار للحكاية الشفوية* رمزي الغزوي
الدستور -
ما زلت أعيش بطولات الشاطر حسن في القصة التي كانت تحكيها لنا جدتي بطريقة تشعرك بأنك أنت البطل نفسه، وعليك بكل شجاعة وإقدام أن تهبَّ لتغير العالم، وتخلصه من ظلماته، وتكسب قلب ابنة السلطان.
 
وما زلت أطير فوق غيمة مع جُبينة، تلك الفتاة التي غدرت بها خادمتها، وجعلتها ترعى قطعان الإوز. ما زلت أتخيلني أطير بالقرب منها، لما ربطت جديلتيها الغليظتين بجذع شجرة التوت، وراحت تتأرجح بين شبابيك الغيم وتغني بحزن: (يا طيور الطايرة ويا وحوش سايره، سلمي على أمي وأبوي، وقولي جُبينة راعية). 
 
وأذكر كيف كنا نتمنى في ليالي المطر أن تنقطع الكهرباء، كي يأخذنا أبي عبر خيوط الضوء المنبعثة من قنديل الكاز إلى عالمه الحكائي العجيب، حين يقولب قصصه بعدد كبير من السيناريوهات والتفريعات، دون أن ينهيها عند حدث محدد، تاركاً لنا أن نمخبر عباب خيالنا، وأن نرسم النهاية التي نحب أو نتمنى أو نتخيل. وكذلك ما زلت أترنم على صوت جدي منفعلاً، وهو يرندح قصائد أبي زيد الهلالي في تغريبته وحروبه وانتكاساته.
 
تداعت إلى نفسي ذكريات الطفولة وحكاياتها وظلالها حين راسلتني سيدة تطلب مني أن أزودها بقصص مناسبة تحكيها لأطفالها، بعد أن أنهوا امتحانات الفصل الدراسي الأول. وقالت إنها تشعر أن الطفولة لا تكتمل بلا قصص. 
 
سرني كلام السيدة وطلبها وصنع يومي. وسرني أكثر أن مجتمعات كثيرة في جائحة كورونا عادت إلى أن تحكي لأطفالهم قصصا شفوية من تراثها الشعبي أو الإنساني، وتخلصهم قليلاً من هيمنة الموبايل والحاسوب وألعاب الانترنت وإدمان مواقع التواصل. فهذا مبشر بالخير. فعلى ما يبدو أن العالم بدأ يعي قيمة الحكاية وأثرها في تربية الأطفال ونشأتهم، بعد أن جعلنا هذا العصر ننأى عن الاتصال المباشر بهم. 
 
ذات مرة قلت لسيدة تعجبت أننا نحكي لأطفالنا يوميا قصصا: لا أكاد أصدق أن باستطاعة الأبناء أن يكبروا ويحلقوا دون أن نحكي لهم حكاية أو نروي لهم قصة. الحكايات أجنحة نمنحها لأطفالنا تجعلهم أكثر قدرة على فهم الحياة وتذوقها، وتجعلهم ينمون كالشجر ضاربين جذورهم في حضارتنا الخصبة.
 
تحية لكل من يعلي من شأن الحكاية الشفوية في زمن الغربة الجديد. تحية لكل أم وأب وجد وجده اعتادوا أن يدفقوا في أرواح أطفالهم ما يثري معارفهم، في وقت لم نعد نأبه فيه أن يعيشوا حياة صناعية مقيتة معلبة، أو أن نتركهم للخادمات يبددن أحلامهم ويكسرن ألسنتهم.