"حنتش بنتش" لمحمود موسى.. جمالية السرد في الفصحى والمحكية الفلسطينية
الغد-عزيزة علي
يقول الروائي محمود عيسى موسى "تكريما لروح الأديب العربي الفلسطيني الكبير الراحل جبرا إبراهيم جبرا، أصدر روايتي برسالته التي كتبها لي بعدما انتهى من قراءة مخطوطها، وكلي فخر واعتزاز بموقفه منها، وبمفرداته وروحه العالية الفياضة بالمشاعر الصادقة، وبمحبته للإبداع والمبدعين"، هذا ما جاء في روايته "حنتش بنتش" التي أعادت دار العائدون للنشر والتوزيع طباعتها مؤخرا.
وكان الراحل جبرا إبراهيم جبرا قال في رسالته إلى محمود عيسى موسى "عزيزي محمود، حنتش بنتش، الآن فرغت من قراءتها التي جاء في 521 صفحة بكاملها. عمل هائل، غني والغني صفته المميزة، فهو غني بخياله، غني بأشخاصه، غني بتفاصيله وإلى ذلك فإنه غني جدا بلغته. هذه الغزارة اللفظية المدهشة، من أين جئت بها؟ هذا الدفق اللفظي المذهل بتراكمه وتنويعه وتطشره، لم أجد مثله إلا عند الكاتب الفرنسي رابليه "القرن السادس عشر"، في كتاب "غارغانتوا"، والكاتب الإنجليزي ستيرن "القرن الثامن عشر"، في كتابه "ترسترام شاندي". سرياليتك ظاهرة منذ البداية -وهي التي اعترفت بها في "نصك" الأخير- غير أنك تحكمت بها، فجعلتها تخدم غرضك التعبير: مليئا بالذاكرة - المتطايرة بكل اتجاه، وأنت في الوقت نفسه قابض عليها بفنك لئلا تنفلت - مليئا بالحب، والحزن، والغضب، والسخرية جميعا.. مليئا بل فائضا، بـ"إجزم وعين غزال والطيرة وبيت راس وحيفا"، بقدر ما تفيض أسطرك أيضا بإربد ودمشق، بالنساء.. وهذه الأسماء، الأسماء: أسماء الناس، أسماء الأماكن، أسماء النبات، أسماء الأشياء. أي عشق عجيب يحتويها ينثرها ويفرغها ذات اليمين وذات الشمال، ولا تنتهي الأسماء ولا ينتهي العشق".
وأضاف "لقد شحنت جزءا كبيرا، جزءا جميلا، فاجعا، من فلسطين في روايتك هذه، على نحو لن يقاربك فيه كاتب فلسطيني أو غير فلسطيني لوقت طويل، وجعلت من الطفولة الفلسطينية نبعا من الحلاوة ونبعا من الدموع، وفجرت في، أنا، كوامن قديمة كانت بانتظار من يحركها بهذا الأغاني و"القصائد"، التي حسبت يوما أنها ضاعت مع ما ضاع من وديان فلسطين وجبالها. لقد كثفت وقطرت في نصوصك التجربة الفلسطينية المتزايدة دوما، من السفر برلك إلى الـ"1948"، إلى المآسي اللاحقة كلها - ضاحكا باستمرار، باكيا باستمرار".
وتابع "وباستخدامك المحكية الفلسطينية بهذا الثراء السخي العارف، استطعت أن تأسر حكي القرى والمدن في شبكتك، بكل إيقاعاته ونبراته، بكل أمثاله وشاعريته".
وأضاف جبرا "أترى بأي متعة قرأت روايتك؟ قرأتها على مهل، لأستطعم كل سطر وكل كلمة فيها. أحداثك ترشقها رشقا، وكزخارف لا عقلانية تتشكل على دفعات على حائط سحري في الذهن. كل "نص"، عندك يأتي من حيث لا ندري، لتتشابك النصوص في النهاية معا في خلق زمن معذب، جائش، زمن يقاس بانتشاره حضورا في النفس والذاكرة، وليس بتوالي الأيام والسنين. وإذا اتهمتني في هذا الكلام بانحياز فلسطيني، فأنا منحاز. أنا منحاز دائما لما يمتعني، ويثير مخيلتي، ويعبث بعواطفي بهذا المكر الذكي. وأؤكد لك أن الكتابات التي تفعل ذلك بي قليلة جدا، بالعربية كانت أو بأي لغة أخرى. بعد هذا الحماس، أود أن أتحدث عن عملك كمشروع رواية يجب أن تنشر، فأستبق اعتراضات الناشر المحتملة".
وأوضح جبرا، أن الخلط بين الفصحى والمحكية عند موسى بارع وموفق، ولكنه لا يخلو من عشوائية في خطة الكتاب الأساسية. فالسرد بالفصحى يتناقص بتقدم الرواية، إلى أن يكاد ينعدم، وتصبح المحكية هي السائدة، وهي محكية لم أقرأ مثلها صدقا وواقعية، وأمدتني بلذة عميقة خاصة محركة نوازع طفولتي بعد عشرات السنين من الفراق.. غير أن الكتاب لغير القارئ الفلسطيني، يصبح صعب القراءة، ويكاد يستحيل فهمه في كثير من الأماكن، مما سيعيق فعله المطلوب في نفس القارئ العربي، في حين أن المهم جدا هو أن تصل روايتك هذه إلى العربي، بكامل قوتها ونفاذها.
وتابع جبرا "هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إذا بقيت محمولا على موجتك المأساوية وهي في ذروتها، فإن عملك، وبخاصة في الثلث الأخير من الكتاب، راح يعاني من تكرار أرجو أن تنتبه إليه وتتداركه، والثلث الأخير هو الجزء الذي ألحت فيه عليك اللهجو المحكية"، ويرى جبرا أنه قبل أن يتفلسف أي ناشر بحجج ضرورة توزيع الكتاب في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، أن تختصر الرواية قليلا، ربما إلى ثلثيها، أو ثلاثة أرباعها، وأن تزيد من تحكمك بطريقة مزج الفصحى بالمحكية، على أن تبقي لنا من هذه المحكية معظمها. فأنت هنا في الواقع تكرس اللهجة الفلسطينية تكريسا فنيا رائعا، مؤكدا طاقاتها التعبيرية والإيحائية.
ومن أجواء الرواية، يقول موسى في النص الأول من الرواية "حنتش بنتش واللي يلحق ينتش، (يتفرعط أولاد الحارات، الفوقا والتحتا والمطامير وشنا ونسوة المخيم. يتفرعط أهل القرى القرويون وأهل المدن المدنيون.
سنجق طق..
يمتطي الليل غرابه ويزعق خرابا في خراب.
هدير الطائرات الزاحفة بتثاقل يغطي سقوف البيوت، العملاق يزحف نحو المدينة. إيجة الجبار يمد يده ليرمي القرية الساكنة على السفح الذي لجبل الكرمل، قرية إجزم. الزمن يجز كل دوابه المتعبة، والموت يركب البغال على جسد القرية التي أصاب الدم جناحها، ووقعت مكسورة تئن بين العكوب والخبيزة المغرعنة وأشواك الخرفيش، على جسدها البكر التقى الطوفان والزلزلة وحمم من كل حدب وصوب وسكن الجدب بعد طول تشرد وانتظار.
العملاق يدب وظلاله تزحف فوق جسد الصبية المتمطية فوق تراب الحنو بعد أن خلت ضفيرتها وغسلت شعرها وبدنها الغض كما لو أن الماء يلامس بشرتها البضة لأول مرة في التاريخ".