الغد
سادتي أصحاب الشرف، غزة المذبحة حيث الجناة يتجاوزون القتلة، وحيث الجريمة أكبر من حصيلة الدم. إنها جريمة اشترك فيها القاتل، والصامت، ومن شرعن. وإني أتهم…
إني أتهم من قدّس الخرائط التي رسمها الاستعمار بدءا من سايكس–بيكو 1916 وصولا إلى بلفور 1917، وأغفل روابط التكامل العربي التاريخية؛ وأتهم النُخب التي تعاملت مع هذه الخرائط كحقائق نهائية، وأنتجت دُولا مُتناثرة، محكومة بالتمزق وضعف الشرعية؛ وأتهم القيادات العسكرية التي دخلت حرب 1948 بلا هدف سياسي جامع ولا قيادة موحدة، فأنتجوا نكبة ممتدة حتى غزة اليوم.
إني أتهم مؤتمر الرباط (1974) لجعله الإقرار بالتمثيل الفلسطيني حجةً للتخلي العربي؛ وأتهم اتفاق أوسلو (1993) لأنه غيّر مشروع التحرير بسلطة محكومة بالتمويل والتنسيق الأمني؛ وأتهم الانقسام الفلسطيني لأنه قدّم التنازع على السلطة على حساب مواجهة الاحتلال. والحصيلة أن القضية تشتتت بين عجز داخلي وهجر عربي وابتزاز وهيمنه خارجية.
إني أتهم أميركا والغرب لأنهم جعلوا القانون الدولي أداة انتقائية، يطبقونه في كوسوفو وأوكرانيا ويسقطونه عند فلسطين؛ وأتهمهم باستدعاء النصوص الدينية لتبرير الاستيطان؛ وأتهم مشروعهم التنويري لأنه صار ستارًا للاستعمار؛ وأتهم إعلامهم ودبلوماسيتهم لأنهما زيفا الوعي ومنحا الاحتلال حصانة دولية فاستمرت مذابح غزة.
إني أتهم التيارات الفقهية التي حاربت العقل وأغلقت باب الاجتهاد منذ القرون الوسطى؛ وإني أتهم السلطات التي خضعت لها خوفًا أو مصلحة؛ وأتهم الدول التي خرجت من عباءة الاستعمار فظلّت في وضعية تبعية كولونيالية.
إني أتهم التيارات الليبرالية التي استوردت وصفات جاهزة للتنوير فأفرغت الحرية من مضمونها وربطت التنمية بالوصفات الجاهزة؛ وأتهم من جعل النموذج الغربي مرجعية مطلقة فاستنسخ مؤسسات بلا جذور اجتماعية وعجز عن بناء ديمقراطية حقيقية أو تنمية مستقلة.
إني أتهم الانقلابات العسكرية في الوطن العربي لأنها رفعت شعارات الوحدة والتحرير بينما صادرت الحياة السياسية وألغت التعددية، وحوّلت الجيوش إلى أدوات سلطة، ورسّخت الاستبداد وأقفلت الطريق أمام أي تجربة ديمقراطية أو مجتمع مدني ناشئ.
إني أتهم استبدال السياسة بالأمن والأمن بالسياسة وأتهم الفساد الذي استُخدم لتوزيع الولاءات بدلاً من بناء المؤسسات؛ واتهم تغييب الحرية الفردية الذي سلب المواطن دوره كشريك. وكانت الحصيلة دولا مأزومة في شرعيتها، ضعيفة في مؤسساتها.
إني أتهم الخطاب الطائفي الذي غذّى الحروب الأهلية في الوطن العربي؛ وأتهم القوى التي شوّهت التراث وحوّلته إلى طقوس؛ وأتهم حركات الإسلام السياسي التي استبدلت المشروع المدني بخطاب تعبوي، فأبقوا الدولة الوطنية رهينة الانقسام الأهلي.
إني أتهم السياسات التعليمية التي جعلت المدرسة مصنعًا للتلقين؛ وأتهم الجامعات التي فقدت استقلالها وحرية البحث فتحوّلت إلى هياكل بلا محتوى، فتحولت شهاداتها الى عبء اجتماعي واقتصادي؛ وأتهم القوى التي همّشت المرأة فخسرنا نصف رأس المال البشري؛ وأتهم النخب التي تحالفت مع السلطة فحوّلت المعرفة إلى طاعة والمواطنة إلى تبعية.
إني أتهم الأنظمة الريعية التي ربطت العطاء بالولاء لا بالإنتاج؛ وأتهم الإعلام الرسمي الذي زيّف الوعي منذ الستينيات؛ وأتهم من خضع بحثا عن التمويل لأجندة المانحين، مما اوصلنا الى فضاء عام تابع بلا استقلال، يعيد إنتاج التبعية ويعجز عن الإصلاح.
سادتي أصحاب الشرف، ها هم الجناة، وها هي الجناية: غزة الدليل، والضحايا البينة، والتاريخ هو ملف القضية. وإني أطالب باسم الضحايا بحكم للعدالة؛ بمشروع عربي شامل يقوم على التكامل الاقتصادي والسياسي، وعلى المواطنة وسيادة القانون، وعلى قبول التنوع كثراء. مشروع يؤسِّس شرعيته على الحرية كحق، وعلى العدالة كعقد جامع، ويجعل من فلسطين مشروع تحرر ونهضة عربي شامل لا مجرد استعادة أرض. اللهم قد بلغت جنابك.