ثقافة الإلغاء.. من الاختلاف إلى المحاكمات العلنية عبر المنصات
الغد-ربى الرياحي
في الوقت الذي أصبحت فيه منصات التواصل الاجتماعي نوافذ مفتوحة على العالم، أصبح كل فعل أو رأي أو حتى كلمة تحت المجهر.
تعليقات وأحكام مسبقة يلجأ إليها كثيرون ممن يرتادون العالم الافتراضي، والسبب في ذلك أنهم يرون أنفسهم قضاة ومن واجبهم محاسبة الناس بالطريقة التي يريدونها.
هذه المنصات لم تعد مجرد مساحات للتواصل والمشاركة، بل تحولت إلى ساحات يحاكم فيها الأشخاص العاديون نتيجة لحظة غضب أو سوء فهم.
ثقافة الإلغاء هنا لم تعد قضية مشاهير، بل تجربة يومية يمر بها أصدقاء، زملاء أو حتى أفراد من العائلة، لتتحول الكلمات أو الأفعال الصغيرة إلى محاكم افتراضية تنهي العلاقات قبل أن تبدأ.
الأمر الأكثر خطورة هو أن هذه الساحات الافتراضية غالبا ما تقيس الأخطاء بمعايير صارمة وتمنح الحكم قبل الاستماع. ما كان يمكن حله بالحوار أو التوضيح في الواقع أصبح هجمات إلكترونية قاسية نوعا ما تحمل الكثير من الانتقاد والإساءة والتهرب من معرفة الشخص لمجرد أنه يعبر عن رأيه.
لذلك، تتأثر العلاقات الحقيقية، بشكل مباشر؛ صداقات تنتهي، حوارات عائلية تتوقف، وثقة الناس ببعضهم بعضا تنهار أمام هذا الهجوم الرقمي. والخطورة تكمن أيضا في أن ما ينشر عبر هذه المنصات لا يختفي بسهولة، صورة أو تغريدة قد تتحول إلى وصمة تلاحق الشخص لوقت طويل وكأن الأخطاء الرقمية لا غفران فيها أو مبررات، فالعلاقة التي كانت قائمة على التفاهم والاحترام تصبح رهينة لخوف مستمر، ويصبح المجتمع الافتراضي ساحة للعقاب أكثر منه مساحة للتواصل.
سامح موظف في إحدى الشركات تعرض للإلغاء على السوشال ميديا بسبب فيديو ساخر قام بمشاركته. هو لم يكن يتوقع كل ردة الفعل تلك، فقد هوجم بقسوة غير مبررة بالنسبة له وواجه انتقادات لاذعة جعلته يعيد النظر في شكل علاقاته.
سامح خسر عددا كبيرا من متابعيه، ورغم اعترافه بخطئه، إلا أن ذلك لم يكن كافيا ليحاكم بعدالة، الكل اتفق على إدانته حتى خارج الفضاء الرقمي ولم يجد من يضع له الأعذار ويفهم تصرفه بحياد.
أما آلاء فهي معلمة لغة عربية في مدرسة ابتدائية تشارك منشورات بسيطة عن أدب الأطفال وأهمية القراءة، تقول "كل شيء تغير بعد تلك الحظة عندما قررت إعادة نشر مقال قديم يحتوي على جملة اعتبرها بعض المستخدمين مسيئة"، فتحول الموقف بسرعة لم تتخيلها إلى حملة إلغاء على حسابها الشخصي مع اتهامات بالسطحية وعدم الوعي، الأمر الذي جعلها لاحقا تشعر بالخوف من التعبير عن نفسها، وبالتالي ضعفت ثقتها بزملائها وأصدقائها وبدأت تتجنب التواصل الاجتماعي حتى لا تتعرض للانتقاد أو الهجوم مرة أخرى.
وتبين خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم أن ثقافة الإلغاء إحدى الظواهر الأكثر حضوراً في منصات التواصل في الوقت الحاضر، حيث يتم استبعاد الأشخاص أو مقاطعتهم بسبب موقف أو رأي أو سلوك لا يلقى قبولاً. هذه الظاهرة لم تبق محصورة في العالم الرقمي، بل امتد تأثيرها إلى العلاقات الاجتماعية اليومية، لتثير الكثير من التساؤلات حول قيم التسامح والحوار في مجتمعاتنا، فهي وسيلة للهروب من المواجهة؛ حيث أصبحت ثقافة الإلغاء في كثير من الأحيان أداة للهروب من المواجهة المباشرة، فبدلاً من النقاش أو محاولة الإصلاح، يلجأ الأفراد إلى الضغط على زر الحظر أو إلغاء المتابعة، وكأنها طريقة سهلة للتخلص من الخلاف من دون تحمل تعب الحوار. وتتراجع قدرة الأفراد على التسامح وتضيق مساحات تقبل الرأي الآخر؛ إذ يعتاد الشخص على رفض ما لا يتفق مع قناعاته.
وترى إبراهيم أن الإلغاء قد يكون موقفا أخلاقيا وقد يكون انفعالا مؤقتا، وفي حالات نادرة قد يكون الإلغاء موقفاً أخلاقياً مشروعاً ضد ممارسات ضارة أو خطاب كراهية، لكن في الأغلب يتحول إلى رد فعل سريع تفرضه العاطفة لا العقل.
وثقافة الإلغاء تهديد قيم الحوار والتفاهم، فالإلغاء المستمر يضعف قيم الحوار داخل المجتمع، فبدلاً من السعي إلى الفهم المتبادل، تبنى الجدران العازلة بين الأفراد، ويزيد من القطيعة.
وتنوه إبراهيم إلى أنه حين يسود الخوف من الإلغاء، يصبح التعبير عن الرأي الحر مخاطرة. يخشى الأصدقاء أو الشركاء أن يساء فهمهم أو يتم إلغاؤهم، مما يدفعهم إلى المجاملة والسطحية بدلاً من الصراحة والصدق.
وتشير إلى أن الإلغاء قد يقود الأفراد إلى عزلة رقمية واجتماعية، إذ يشعر الشخص المرفوض بأنه منبوذ ليس فقط على المنصة، بل أحياناً في محيطه الواقعي أيضاً، وهو ما قد يولد شعوراً بالاغتراب النفسي والاجتماعي.
وعلى الرغم من أن الإلغاء الرقمي يبدو مشابهاً للقطيعة الواقعية، إلا أن أثره أعمق أحياناً، لأنه علني وجماعي، وقد يعرض الشخص للتشهير أو الحملة المنظمة ضده، والمنصات الاجتماعية تضخم ظاهرة الإلغاء، فهي تتيح انتشار موجات الإلغاء بشكل جماعي، حيث يمكن لفكرة فردية أن تتحول إلى حملة شعبية في لحظات، مما يجعل تأثير الإلغاء أكبر من حجمه الطبيعي، وفق إبراهيم.
ويرى المحامي الدكتور يونس عرب، مستشار الأمم المتحدة للتشريعات السيبرانية ورئيس مجموعة عرب للقانون؛ أن ثقافة الإلغاء تتعمق يوما بعد آخر في فضاء شبكات التواصل، وتعكسها مظاهر عديدة، تعبر جميعها عن تغير في العلاقات الاجتماعية وطبيعة هذه الشبكات من حيث قدرتها على إخراج دواخل البشر بشجاعة وإتاحتها للمشترك العيش كما يحب ويرغب، سواء بصورة ظاهرة أو عبر صناعة شخصية مستعارة تحت اسم مستعار يعبر من خلاله في كل قول أو سلوك على الشبكة عن رغباته المختلفة.
ويلفت عرب إلى أن ثقافة الإلغاء ذات أثر سلبي على العلاقات الاجتماعية الطبيعية والمعتادة، لأنها ببساطة تضع الطرف المقابل في أي علاقة في دائرة الشعور بغياب أي دور له يراه هو من وجهة نظره وازنا ومؤثرا وصحيح التوجهات، في حين هو ليس كذلك من طرف من يمارس مظاهر الإلغاء الآخر. ثم الإلغاء وبالقطع سلوك فيه ضعف، بحيث يخشى مواجهة الآخر ومشارعته والسجال بأي شأن معه، فلا يجد مهربا غير إلغائه من نطاق علاقاته.
وليس ثمة تسامح ولا قبول للاختلاف في دائرة ثقافة الإلغاء، فالتسامح يعني التقبل والقفز عما يحدث شرخا في التعامل لمواصلة علاقة اجتماعية ما، ويعكس الحرص على استمرار العلاقات بصورتها المقبولة حتى وإن تخللها أي واقعة اختلاف في الرأي والتوجهات. وغياب التسامح وعدم إتاحة الفرصة لقبول الآخر بعيدا عن جوانب الاختلاف، نتيجته الطبيعية حصر العلاقات بالمشابهين لبعضهم بعضا، وهو أمر لا ينتج جديدا ولا يخلق حيوية في العلاقة، وفق عرب.
والإلغاء ليس رد فعل انفعالي مؤقت، بل سلوك الضعيف المتهرب من المواجهة المفرط بعلاقته بالآخر، وهذا سلوك أخلاقي يعكس منهجا شخصيا في التعاطي مع الآخر. فالخيارات المتاحة التي تكرسها ثقافة الإلغاء وسلوكها الأخلاقي، إما أن تتوافق مع الآخر وتنحصر خلافاتك معه بما لا يقدح في ثوابته وتكون مثله كي تتواصل علاقتك به أو أن تختلفا فتلغيه أو يلغيك.
وبالتأكيد، إذا ما شاع وأصبح مقبولا أن يتم إلغاء كل من نتعارض بالرأي معه، أو يعارضنا فكرا أو رؤية، فإن ما سيشيع واقعا خوف المخاطبين من إبداء آرائهم خشية التعرض للإلغاء أو عدم القبول.
ومن زاوية أولئك الذين يكونون ضحية الإلغاء، فإن حماسهم لمواصلة وصناعة التعامل سيخبو، فالأمر محبط لا آنيا بل سيكون إحباطا متجذرا لتراكم حالات الإلغاء عند شيوع هكذا ثقافة. وإذا كان البعض يسمي ظاهرة كهذه بالعزلة الرقمية، فإن الظاهرة تتعارض مع غرض وهدف وطبيعة شبكات التواصل الاجتماعية الرقمية.
وينوه عرب إلى أن ثقافة الإلغاء إذا ما أصبحت نهجا في نطاق البيئة الرقمية، بحيث يغيب التواصل الفعلي مع من نختلف معهم رأيا وفكرا وموقفا (بين منتسبي مجتمع العلاقات الاجتماعية المعين الذي تعكسه دائرة ومجاميع صداقات شبكات التواصل)، فإن العلاقات ستكون جسدا دون دم، ستكون مظاهر تعبيرية سطحية لا يتخللها عمق ولا تأصيل، فالاختلاف يصنع العمق ويكرس اتجاهات المعالجة المختلفة تبعا لزوايا الاختلاف، ولعل أوضح دليل على ما نقول إن آثار شيوع الاختلاف الإيجابية هي ما جعل الاختلاف منهجا في المذاهب الفكرية المختلفة، بل خلقت فكرا مستقلا اسمه فكر الجدل أو الديالكتيك.
ويرى أن ثقافة الجدل حول نقاط الاختلاف، تنمي العقول وتوسع نطاق البحث وتظهر العيوب والضعف في الرأي والفكر. ببساطة، الإلغاء سلوك لا يتماشى مع أغراض الشبكات الاجتماعية الرقمية في التفاعل الإيجابي، وتكريس ثقافة الاختلاف وتقبل الآخر والجدال المعزز بالحجج هو البديل الذي يحمي إيجابيات الرقمنة في علاقاتنا الاجتماعية.