الدستور
القضية الفلسطينية بأسرها تعدّ جزءاً مهماً في اعتبارات ومحددات الأمن القومي الأردني، لكن الحال أكثر إلحاحاً بالنسبة للضفة الغربية والقدس، للعديد من الأسباب؛ أولاً ما يتعلّق بالعلاقة التاريخية (وحدة الضفتين، الجنسية والتشابك السكاني والاجتماعي) وثانياً ما يتعلّق بموضوع اللاجئين وحق العودة، وثالثاً ما يتعلّق بالوصاية الهاشمية على المقدسات، ورابعاً ما يتعلّق بالحدود والمياه وخامساً ما يتعلّق بالمعادلة الداخلية الأردنية التي طالما كانت – وما تزال- على تماس وتداخل كبير اجتماعياً وثقافياً وسياسياً مع الحالة الفلسطينية، بخاصة في الضفة الغربية.
هذه ملفات رئيسية في المصالح الحيوية والأمنية الأردنية، لكن قبل هذا وذاك وبعده هنالك سؤال الدور الإقليمي الأردني ومكانة الأردن الاستراتيجية التي ارتبطت بالاشتباك الأردني الاستراتيجي والتاريخي مع الحالة غربي النهر، سواء في العلاقة مع الضفة الغربية أو الاشتباك مع المشروع الإسرائيلي والصهيوني، وهو ما استُدخل بدرجة كبيرة في تصميم العلاقات الأردنية- الأميركية والغربية عموماً، ليس فقط على صعيد الجغرافيا السياسية، بل التصورات الاستراتيجية والتاريخية المتشابكة مع الملف الفلسطيني.
على الجهة المقابلة، ثمّة هواجس في بعض الأوساط السياسية في عمان في اتجاهين رئيسين؛ الهاجس الأول يتمثّل بوجود أجندة يمينية إسرائيلية متصاعدة، بخاصة مع «البنيامينية السياسية» (التي تقوم على رفض الدولة الفلسطينية، والتخلص من أوسلو والسلطة) بل العودة إلى ما يطلق عليه في الأدبيات الإسرائيلية «الخيار الأردني». أما الهاجس الثاني فهو أن يدفع الأردن كلفة وفاتورة المواجهة مع إسرائيل، في ملف القضية الفلسطينية، بخاصة مع وجود إدارة ترامب، مما سينعكس على المصالح الاستراتيجية والأمنية الأردنية، أيضاً في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية.
للأمانة لا يمكن إنكار قوة هذه الحجج، بخاصة مع تراجع وتدهور أي فرص حقيقية لإقامة دولة فلسطينية، بصورة واقعية، وحقيقية، ومن الضروري التذكير هنا أنّ ملف القضية الفلسطينية كان دوماً جزءاً من السياسة الأردنية، لكن كان هنالك في المقابل عمق استراتيجي عربي وخطاب رسمي وشعبي على صعيد أغلب الدول العربية، ولم يكن الملف فقط أردنياً، بالرغم من أنّ الأردن طالما تعامل معه بوصفه قضية وطنية وعروبية وذات طبيعة استثنائية في السياسات الأردنية.
تأكيدات الملك المتتالية منذ استلامه للحكم لا تقبل النقاش ولا الجدال في مسألة حسم الدور الأردني؛ فمنذ اليوم ورفعه شعار «الأردن أولاً» وتأكيده على أنّ إقامة الدولة الفلسطينية مصلحة استراتيجية أردنية، مروراً بلاءاته الثلاثة المتكررة، وصولاً إلى لقائه مع ترامب ووضعه المصلحة الاستراتيجية الأردنية؛ فهنالك إدراك أردني راسخ أنّ المشروع القديم- الجديد في إسرائيل هو دوماً تفريغ الأرض من السكان، على مراحل متتالية، لذلك اعتبر الأردن موضوع التهجير من غزة بمثابة خطوة أولى لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية التي تعني لإسرائيل استراتيجياً ودينياً ورمزياً أبعاداً أكبر بكثير من غزة.
على الطرف المقابل لا يمكن للأردن الابتعاد أو الانفصال عن الاشتباك الاستراتيجي مع ملف القضية الفلسطينية والأوضاع في الضفة الغربية والقدس، لأنّه ملف في صميم الأمن القومي الأردني من جهة، والدور الإقليمي والمكانة الاستراتيجية الأردنية من جهةٍ ثانية، ولأنّ هنالك العديد من الملفات التي من المفترض أن يكون للأردن دور وكلمة فيها لتداخلها مع مصالحه الاستراتيجية.
فضلاً عن وجود قنابل متفجرة وموقوتة في المرحلة القادمة؛ منها ما يتعلّق بضم الضفة الغربية وانعكاساته العديدة منها ما يتعلّق بالفلسطينيين الذين يحملون جوزات سفر أردنية مؤقتة، أو حتى الأردنيين المقيمين في الضفة، ومنها ما يتعلّق بملف القدس والمسجد الأقصى وتعريف الوصاية الهاشمية هناك ومخاطر انفجار الأوضاع من قبل الجماعات الدينية المتطرفة في إسرائيل.
من الضروري أن يكون هنالك تدشين لغرفة عملية أردنية لمتابعة ملف الأوضاع في فلسطين بصورة عامة، والضفة والقدس بصورة خاصة، لتحليل السيناريوهات وتطوير تصوّر واضح للمصالح الوطنية وتعريف السياسة الأردنية بدرجة دقيقة ومؤطرة، تأخذ بالاعتبار لاءات الملك كموقف ثابت من جهة، والتعامل مع السيناريوهات المختلفة والمحتملة من جهةٍ ثانية.