ابتسام الحسبان في رواية سحابة أورت... نساء القلق وسياسة اللاتعيين
الدستور-إبراهيم خليل
سارة التي تضطلع وحدها في هذه الرواية بدور الساردة تسوقها الصدفة للاطلاع على مكان تباع فيه اللوحات الفنية، والبراويز، تستوقفها لوحة منها، يقترب عمر صاحب المعرض، قائلا: يبدو أن هذه اللوحة أعجبتك؟ تقول سارة: أحببتها كثيرًا على الرغم من أنني لم أفهم منها الكثير.
يرد عمر: يبدو أنك لا تعرفين الكثير عن الفضاء. ولا سيما عن سحابة أورت. تعلق مندهشة: سحابة أورت؟ نعم! مثلما أتخيلها في اللوحة يفترض أنها فوق درب التبانة، وهي مليئة بالمذنبات والشهب التي تتساقط حولنا. وما يخيف - حقا- أن تكون نهاية الأرض – الكون- بواحد من هاتيك المذنبات. والمخيف أكثر أن أحدا لا يستطيع التنبؤ بذلك.
فمن هذا الموقف العابر الذي عرض لها، وهي في غاية التأثر لأن أم إلياس التي تعرفت عليها في دار المسنين كانت قد أرسلتها في مهمة صفح، وغفران، عن خطيبها السابق حبيب الذي تخلى عنها وتزوج شقيقتها بدلا منها في مكيدة حبكتها الشقيقة جيدا لإيقاع الفرقة بينهما بطريقة خسيسة مدنسة فبها أقنعت حبيبًا أن لغادة(أم الياس) علاقة بآخر، من هذا الموقف جاء العنوان الذي تخيرته الكاتبة للرواية.(ص ص138- 139).
وهذا العنوان الذي اختير اختيارا لا يخلو من مصادفة، يوحي بموقف الساردة التي لا تتوقع لعالمنا هذا خيرا. فهو عالم لا يقل تناقضًا عما تتضمنه اللوحة التي رأتها ذات معرض. فالخلفية سوداء، مظلمة، وكوكبنا يتألق بلونه الأزرق الملكي في اللوحة. ساهيًا عن بقعة الضوء المتجهة نحوه من أعلى كأنها تحمل الخلاص، وهي آتية من العالم المتلألئ بالنور. وما لم يدر صاحب المعرض(عمر) هو أننا جميعا نحمل فوق رؤوسنا سحابة أورت . (ص150)
وهذه العبارات تنم - في رأينا - على القلق الوجودي الذي تعاني منه سارة . وتعاني منه أيضا سائر الشخوص.
نساء القلق:
وسارة هذه (خريجة الحقوق) واحدة من شخصيات عدة تعاني، وتعيش، هذا القلق والأرق. فلا توجد شخصية من الشخصيات الكثيرة(24 شحصية) التي تنطوي عليها رواية ابتسام الحسبان (الدار العربية للعلوم – ناشرون 2021) إلا ولديها نصيب من هذا. فأمل – أم سارة- جاءها القلق من كونها صعبة الحمل، والمخاض. لقيت حتفها ولما تبلغ ابنتها سارة أكثر من العامين، وكان الأب الذي رزق طفلا (يزن) قبل سارة، قد نصحها بتجنب الحمل فأصرت إصرارا لكونها تتمنى طفلة إلى جانب ابنها البكر.
وغيث، ووالدته جهينة، تزوجت من رجل بعد أبيه، وعدها أن يدعو غيثا ابنه لكنه لم يف بوعده، ولم يبر بقسمه، فما أن تجاوز غيث العاشرة حتى بدأ يزورّ به، وينهرهُ، ويعاقبه على أهون الأسباب. ونبذه طريدا من البيت مما اضطره للجوء إلى سارة في بيت الجبل، وحلَّ عندها بصفة دائمة بعد أن كان يزورها لماما، وتعلق بها وتعلقت به، ثم عرضت على قصي - شقيق زوجها المتوفى (أحمد) - كي يستضيفه لديه، ويساعده في الالتحاق بمدرسة بدلا من مشروع الحدادة الذي كانت تنوي أمه أن تبعث به إليه، وَوُفق قصي في العثور على مدرسة خاصة تقدم المنح للمتفوقين، وكللت مساعيهما بالنجاح بعد اجتيازه اختبار القبول.
وأم إلياس التي ذكرت في غرة هذه القراءة تعرفت عليها سارة في دار المسنّين، ليست قلقة بشأن حبيب الذي غفرت له، وهو حيٌ، فحسب، بل بسبب أولادها الذين آثرت أن تتركهم، وتقيم في هذه المبرة حتى لا تثقل عليهم، وهي في هذه الدرجة القصية من العمر، لكن الأبناءَ لم يزايلهم القلق عليها، فعادوا، واستعادوها من المبرة بعيد رحيل حبيب الذي توفاه الله.
وفي بيت يزن- شقيق سارة - القلق هو سيد الموقف، فلا يفتأ يضرب زوجته (نبيلة) التي سئمت الحياة معه . وقبل أن يقرر التحول إلى جهادي طلب من شقيقته أن تسامحه على موقف مشين اتخذه منها حين أخبرته بنيتها السفر لمتابعة الدراسة، فطلبَ منها التنازل عن نصيبها في المنزل الذي ورثاه عن أبيهما الراحل.
ومثل هذا القلق الممِضّ لم يغب حتى عن سلام، وهو شاب كان يقيم في منزل مجاور لهم، ثم قذت به الأقدار إلى المهجر، وفيه تزوج من أحنبية (إيزابيل) وما عتمت أن أصيبت بالسرطان. وعندما رفضت العلاج آثرها الموت. فعاد إلى البلاد ليفتَتِح دكانا لبيع الزهور.
فالقلقُ من الحياة، والوجود، هو القاسم المشترك الذي تعاني منه جل الشخوص؛ لمياء التي تزوجت من كريم سرًا، وهو رجل متزوج، ولقيت من ذويها ومنه الأمرين بعد أن طلق زوجته الأولى، بسبب ما تبين لاحقا من دسائس، ومكائد، أوقعت بينهما، وأوغرت صدره عليها، فطلقها ثم ندم ندم الفرزدق على طلاقهِ نوار، فاقتصَّ من لمياء التي لم تُردْ الاحتفاظ بالجنين كي لا تُبقي على شيءٍ يُذكـرُها به.
وثمة سيدةٌ أخرى تُتهم بمحاولة قتل زوجها بإطلاق النار عليه، ووردة التي فقدت ابنتها في جريمة، كذلك أم عبد الرحمن . جُلُّ النساء في هذه الرواية يعانين، لا من القلق وحده، بل من سوء المصير أيضا، وخيبة المساعي، وفقدان الأمل، وكم تكون الحياة بائسة إذا تضاءل أملنا فيها حد الاختفاء. فسارة - مثلا - لم يعد لديها شيء من هذا الذي يسمى أملا، فقد عرفت الأخوين أحمد، وقصيّ، وأحبها الاثنان فمالت للأكبر أحمد، وتزوجا لكن هذا الزواج كتب له أن ينتهي بمأساة، فقد توفي أحمد في حادث سير ظلت سارة تظن نفسها مسببة لوفاته في ذلك الحادث، مع أن هذا لم يقنع أم أحمد، والدة المتوفى، ولا شقيقته حنان، ولا شقيقهُ قصي. وقد تشاءمت من البيت فاتجهت لما تسميه المؤلفة بيت الجبل، وفيه كانت تقيم وحيدة إلا من الصبي غيث الذي كان يزورها من وقت لآخر، وتعلقت به من باب التسلي . غير أن أفراد الأسرة كانوا يأملون بعد وقت من وفاة أحمد أن تتغير سارة، وأن تقبل على الحياة، وأن تنسى أحمد كغيرها من النساء اللائي يُفْجعن بأزواجهن. ولطالما حاولت أم أحمد أن تقنع سارة بالزواج من قصي الذي لا تخفي سارة إعجابها به، وميلها إليه، إلى درجة كادت تشعر بالندم لأنها لم تقترن به بدلا من أخيه، وقد اضطر قصي نفسه للاقتراب منها عارضا عليها عشقه، وحبه، ولكنها ظلت تصده تارة بلطف، وطورا بعنف.
وفي نهاية الوقائع يئس منها، ووعدها بألا تراه، لكن الصراع يظل قائما في نفسها، محتدمًا من حين لآخر، فتتوق للقائه، وتتمنى أن يزورها، وأن يظلَّ التواصل بينهما حميمًا ولو بحجة الصبي غيث. وفي ذروة الإحساس بالحاجة للحب يلتقي العاشقان، ويدعوها لتناول العشاء معه في مطعم، وتقبل الدعوة، وتستعيرُ فستانا أحمر من صديقتها المأزومة لمياء، فتبدو فيه كملاك هبط من السماء، في إشارة غير مباشرة لتغيُّر اللحن، وارتفاع صوت الموسيقى.
فالصراع الذي يقوم عادة بين الأخوين على امرأة واحدة، جاءَ في هذه الرواية (سحابة أورت) صراع المرأة على أخوين، فهي التي وقعت في حب الأثنين، وظلت تتأرجح بينهما مدة، وحتى بعد تغيب أحمد بالوفاة، ظلت تعاني من ذلك الصراع: فهل تظل متمسكة بما وعدت أحمد به، وهو ألا تتزوج أحدا غيره إذا توفي قبلها، أم تتخلى عن ذلك، وتفي لقلبها الذي يميل لقصي؟ هذه هي العقدة التي عانت، وتعاني منها سارة. وهي التي تضفي على وقائع الرواية ونسيجها السردي مذاقا خاصًا نفتقده في الكثير مما نقرؤه من محاولات.
تبويب مبتكر:
هذه الرواية الجميلة التي لم يعبأ بها أحد ممن يكتبون عن الروايات الصادرة تكتسب جدارتها بالقراءة، وبالاهتمام النقدي، من طبيعتها الأدبية، والفنية، لا من انضمام المؤلفة لثلة ما، أو مجموعة من المتطفلين. فقد اختارت لها تبويبا مبتكرا يقوم على قسمتها لثلاثة من الأقسام: صيف 1 وصيف 2 وصيف 3 . وكل صيف منها ينقسم على عدد من الأقسمة مرقمة بالأرقام المتسلسلة. وكل قسم منها يتألف من شذرات متفاوتة طولا وقصرا. وتفرق المؤلفة بين الشذرة والشذرة بفراغ تتخلله نجوم ثلاث تشعر القارئ بالانتقال عبر متتاليات محكية مطردة على هذا النسق. وثمة علامة تظهر في مستهل كل شذرة عدا النجوم، فهي تبدأ باستمرار بتعليق تحليلي يسبر غور الساردة التي تؤدي دورا مزدوجا فهي الراوية، وبطلة الرواية، إذا ساغ التعبير، وحَسُن. وهي الشخصية الرئيسة التي تلقي بأضوائها وظلالها على سائر الشخوص. وعلى تدفق المحكيات. ويستطيع القارئ أن يرصد هذه الظاهرة بيسر ما إن يرى الفراغ الذي يفصل بين الشذرة والتي تليها.
ها هي تقول (ص150) لكل مدينة رائحتها المتميزة، عطرها الخاص، تشعرنا بهذا أنها تحل في مدينة أم إلياس التي تركت المبرَّة. وفي ص 184 تقول الساردة: كل شيء هادئ هدوء الربيع، الهواء.. الشوارع.. الناس يمشون بصمت كأنهم مخدَّرون يخشون خدش صفاء هذا الربيع. بدا كيوم رائع لزيارة البحر. يعرف القارئ من هذا أنها تزور بصحبة الصغير غيث شاطئ البحر. وفي آخر يحضر فيه قصي تقول: تظل تأتي إلي في لحظات الشرود. في مكان أحس به دون أن أراه. أتخيلك تقف موليا ظهرك لي. إلخ.. ثم يجري الانتقال للمشهد بما يتضمنه من حوار عصي على النسيان. فما الذي كسبته الرواية من هذه الطريقة في نثر الحوادث نثرا في لعبة لا تخلو من غموض لما فيها من تقديم وتأخير، ومن مراوحة في الزمن.
جوابا عن هذا السؤال، نقول: تكتسب الرواية من هذه (الخطاطة) تشويقا كالتشويق الذي تتصف به بعض المسلسلات الدرامية، فالقارئ - ها هنا - يقرأ والمتخيل السردي يساعده على التنقل بين منظور وآخر، بين لجظة من الزمن وأخرى، بين موقف وآخر، أو بين شخص وشخص آخر، فهو يصغي لسارة في مونولوج مادته الأساسية تعليقات تستبطن الموقف الوجداني، أو التأملي، أو الفلسفي، للساردة التي هي إحدى الشخصيات، ثم ينتقل انتقالا سريعا يشبه الفيديو الذي يضع تلك التعليقات في موقعها من السياق. وهذا ييسر على القارئ تقبل المونولوجات الكثيرة التي تعود بنا من الحاضر التخييلي إلى ما سبق فيغدو القارئ العادي، أو المتخصص، جزءا من المشهد في سيرورته المستمرة. فالرواية أفادت إفادة قد لا تكون مقصودة من تقنيات السيناريو الذي يجمع بين المشهد وتفسيره، والوقوف على أثره في بقية المشاهد الأخرى.
اللاتعيين:
وعلى الرغم من أن « سحابة أورت» هي الرواية الأولى، فيما أظن وأحسبُ، للكاتبة ابتسام الحسبان، إضافة لمجموعة قصص من إصدارات وزارة الثقافة « هاوية مشرقة جدا « (2024) إلا أنها لا ترتكب ما يرتكبه المبتدئون في العادة من أخطاء، سواء في بنية الرواية، واطراد السرد من غير فجوة، أو في اللغة التي تستخدم في التعبير عن الشخوص، أو في التحليل النفسي، أو الحوار بين الأشخاص، أو حتى في الوصف، أو ما يمكن أن نتنبه إليه وننسبه للتأملات في الحياة والموت، أو الوجود والعدم. مما يُفصح عن أنها تمتلك الحد المقبول من الثقافة العامة، واللغوية، والخبرة بطقوس الكتابة التي تمكنها من كتابة الرواية. وهذا شيء لا بد من أن يوضح.
فثمة الكثير من الأشخاص الذين يقعون تحت سحر الكتابة الروائية فيظنون الرواية (سواليف) يستطيع أن يتقن كتابتها أي إنسان مهما كان حظه من المعرفة بهذا الفن ضئيلا قاحلا. وقبل أن تنضج لديهم ثمرة المعرفة بهذا الفن يتعجّلون النشر، وتعجلهم هذا يوقعهم في الكثير من المواقف المضحكة. فأحد الكتاب - على سبيل المثال- يذكر في موقع أن عائلة الرجل تقتصر على ابنين والأم ثم نكتشف بعد أكثر من 145 ص أن في العائلة ابنة وأن خاطبا تقدم لها وآخر يذكر في موقع من الرواية أن الشقة التي يقيمون فيها ضيقة وأنهم يشعرون بذلك شعورا قاسيا، وفي موقع آخر يقول إن بيتهم متسع وفيه غرف كثيرة . وثالث يذكر لك من المفاجآت ما لا عين ترى، ولا أذن تسمع، ظنا منه أن هذا ينطلي على قارئ. وقد تجد للشخصية في الرواية اسمين فهي في موقع ما غدير وفي موقع ثان رغيد أو يروي عن الطفلة ذات السنوات العشر رغبتها في كتابة مذكراتها، وأنها كانت تحلم بذلك منذ زمن طويل، مع أنها لم تبلغ بعد سنا تدعي فيه أن لديها ذكريات.
ومن يقرأ رواية (سحابة أورت) لابتسام يظنها متمرّسة في الكتابة، وذات رصيد معرفي لا يحول بينها وبين الكتابة الروائية الجادة. غير أن المؤسف، في هذه الرواية، وعلى الرغم من عشق الساردة للمكان « فالمكان هو نحن « بيت الجبل، الحديقة. والمبرة. والبحر، والمدينة والمكتب.. وبيت أم أحمد وما شابه ذلك وشاكله من وجه أو من بعض الوجوه ، على الرغم من هذا كله، لم تذكر لنا في أي بلد تقع هذه الوقائع، وتجري تلكم الأحداث. ومن المتوقع أن يعرف القارئ هذه المدينة أو البلد من باب الحدس، والتخمين، بيد أن هذا غير كافٍ. وأحسب أن المؤلفة تلجأ إلى هذا الذي يسمى « اللا تعيين « محاكاةً أو تأثرًا ببعض الروائيين من الرواد، ومن غيرهم، ممن أضربوا صفحا عن تحديد الأمكنة، وطووا كشحًا عن ذكر أسماء المدن، وتسمية الأشياء بأسمائها طمعًا في تحقيق العالمية لما يكتبون. فكان رواد الرواية يتجاهلون عامدين أسماء المدن، أو البلدان، خشية أن ترتبط رواياتهم بها فلا تظفر بالشيوع والشهرة التي يأملون. فقد كتب أحد الروائيين روايته بعنوان شرق المتوسط دون أن يحدد فيها المدينة، أو العاصمة، التي تقع فيها الحوادث. وقيل في تفسير ذلك: إن المؤلف أعرض عن ذلك لأن ذكر اسم البلدة لا يقدم ولا يؤخر، فما رواهُ من وقائع جرى ويجري في أكثر من عاصمة وأكثر من مدينة وأكثر من بلد فما فائدة التعيين؟
على أننا إذا سلّمنا بهذا لعبد الرحمن منيف، وقبلنا بالتفسير المقترح على انه سبب مقنع للإضراب عن تحديد المكان ، فإن سحابة أورت تختلف عما ذكر. فهي ليست سياسية، ولا علاقة لها بالسجون والتعسف، والاستلاب، الذي نجده في شرق المتوسط مسوغا لاستراتيجية اللا تعيين على رأي نبيل سليمان.
ونحن نذكر هذا لأن المؤلِّفة تجد نفسها في مأزق، أو ما يشبه المأزق، فعندما تزور سارة مدينة أم إلياس تنتقل، وفقا للسياق، من مدينة لأخرى، وتقف بنا عند وصف المدينة التي تزورها دون أن يعرف القارئ من أين غادرت، وإلى أين جاءت، وهذه في نظر القارئ فجوة لا يتخطاها إلا بشيء من التسامح.