عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Jan-2025

قطة فوق صفيح ساخن... مرارة اللجوء الفلسطيني وتعددية الوجع

 الدستور-ناصر الريماوي

 
وبما أنه العنوان، الذي يمثل عتبة النص السردي، ومنعطفه الحكائي، في عالم الأدب، فهو بالتأكيد ما سيقود دفة التوجيه والتهيئة الذهنية لفسحات تأملية محددة، قبل ولوجنا كقرّاء.. لهذه الرواية.
 
فالقطط مثلا، مسالمة في العموم وأليفة، تحيلنا بمدلولها، إلى جوانب جمالية بالمطلق، وهو أمر لا يختلف عليها أحد.
 
وأما الصفيح بإسقاطاته الثقيلة، وفقا لمخلفات اللجوء البائسة وفوضى مخيماته، كحالة إنسانية مستلبة، ترسّبت لتستقر في الدرك الأسفل من وعينا، فهو مفردة تطغى لتفيض بإيحاءات ساخنة لم تبرد بعد، ليحق لها أن تتسيد متن الفواجع والنكبات في قاموسنا الفلسطيني وموروثنا الجمعي بأكمله.
 
إذن فهو المسالم الأليف حين يدبّ على أرضيّة موسومة بالفواجع والنكبات.
 
ربما الإنسان الفلسطيني وربما العربي في العموم.
 
تتسم هذه الرواية - للكاتب والناشر «مراد سارة»- بالشمولية في إبراز تعددية الوجع الفلسطيني وتفرد معاناته، وتحديدا من خلال اللجوء، باستحواذها على أسوأ التجارب الإنسانية المعاصرة، الفردية والجماعية في المخيّم. والتي كان الكاتب إما طرفا مشاركا فيها أو شاهدا أمينا عليها.
 
شمولية، حتى في اختزالها للوقائع، فالمشاهد المتعاقبة موجزة، شفافة وشاملة، وتخلو من أية ترهلات لا طائل منها. مشاهد تختزل الحياة وأوجاعها بمرارة اللجوء، مرارة طافحة، تسيل بين السطور والصفحات لتطفو أخيرا بين أروقة المشاهد المتعاقبة، وهو ما برع فيه الكاتب من خلال لغة طائعة وأسلوب سلس في استنفار ضروري لملكات المتلقي وتفعيل حواسه، كي يتشرب الفكرة جيدا ويقرّه عليها.
 
هناك.. في مخيم «شنلر»، تخطيتُ عتبة النص وعبرت نحو الرواية.
 
وعلى اتساع دائرة الضوء وسطوعه التدريجي، التقينا ثلاثتنا ثم توغلنا في المسير، «هرهورة»، «مراد»، وأنا. تجرعتنا كتل البيوت الواطئة بأرتال الصفيح الباردة حد التجمد، شتاء، الحارة حد السخونة المطلقة صيفا، ثم ألقت بنا وسط أزقة موحلة، ولم أكن أهذي وأنا أصغي للقطة «هرهورة» وهي تروي لي ما فاتني من وقائع مؤلمة تحت أسقف الصفيح، ومما فات الراوي، «مراد سارة»، أيضا، أو أخفق في وصفه.
 
حدثتني عن بيتها الكرتوني الذي كان وطنا، قبل أن تستحوذ عليه تلك المرأة الغجرية.
 
صندوق تحت سقف الصفيح في مبنى وكالة الغوث «مركز توزيع المؤن»، وبأن عليها استعادته، مهما كلفها الأمر.
 
قالت بأن تلك الغجرية قد فقأت لها إحدى عينيها بإبرة غادرة، ذات مرة.
 
شردت مرتابا وهي تبوح لي ببعض أسرارها، وكأنها واحدة من أبناء هذا المخيم، ربما كانت كذلك، لكن من أين جاء بها «مراد» لتحكي؟ قطة تقلبت في هذا المرار الطافح وسط بيئة معدمة شأنها شأن البشر.
 
تقدمنا «مراد»، بسعاله الرطب ونبرة صوته الجريحة، ثم همس في ضجر: علينا أن نواصل.
 
نعم.. خلال بضع صفحات قليلة، كنتُ أرزح تحت تأثيرات عديدة، كما أنني كنتُ مكبلا في استجابة بديهية لهاجس اللغة في مستوى الرواية البنيوي وهو ما تحرره اللغة وتطلقه لدى المؤلف وبوضوح عال من مشاهد بصرية، تأخذ بالتشكل الفوري وبتلقائية في تتابع تدريجي على شاشة المخيلة، كأي متلق آخر.
 
اللغة بتأثيراتها ورهافة الأسلوب وما أفضتا إليه من سطوع في المشاهد، قد استحوذتا على حواسي كلها فأذعنت.
 
بادرني «مراد سارة» ببحة صوته المنخور ببراثن التبغ وقطران سجائره المحلية: هل تدرك ما تقرأ؟
 
أجبت: بل أرى وأسمع، وبوضوح شديد..!
 
رمقني بنظرة متسائلة، ثم تحول ببصره ووبر صدغيه في ضيق، نحوعلب الصفيح الغارقة في عتمة الليل، أشار إلى كوة مضاءة استيقظت للتو، يتسرب منها وهج شاحب، مشتت، راح يسيل إلى جانب شخير أعزل، أعرف مصدره تماما.
 
قال «مراد» وهو ينقر بسبباته المصفرة على أذنه ويبتسم: إنه الصوت الأزلي.. «بابور الكاز»، أتعرفه؟ أجبته على الفور: بل أشتم عبق الرائحة الزمنية في الصوت، للأصوات عبق السنين بوقعها المغاير.
 
هذه المرة لم يُشح، بل تخلى عن صمته وراح يجرجر الفراغ وراءنا بصوته الخشن: ترى وتشم عبر هذه الكلمات.. وهذه الصفحات القليلة؟!
 
ماذا لو بحت له بالمفارقة في هذه الرواية؟
 
وبأنها تنوء بوعي جمالي فريد، رغم أنه سخّرها بنفسه لوصف واقع قبيح يصعب على المرء تجميله.
 
لمست هذا وبكثافة بما خلفته المشاهد المتعاقبة من تأثيرات نفسية وعاطفية وفلتان تأملي في تلك المصائر الموحدة والمؤلمة لأصحابها تحت أسطح الصفيح رغم اختلاف الوقائع بينها.
 
التكثيف في هذه الرواية جاء بفنية عالية، أيضا، لتدنو العبارة على امتداد الرواية، من حالة وسطية رائعة، تراوح بين النثر في اختزاله الجميل واحتكار الشعر للصور، وهو ما أتقنه الكاتب باحتراف، أيضا لم يجازف بالسوريالية ولا بإقحام غيره بآفة التأويل، ربما تلافيا لأي تشتت ذهني أو إرباك محتمل، فقط ما يهمه هو إحساس الآخرين بذلك الوجع الذي من شأنه أن يتنقل بخفة بين الحواس، عند مختلف البشر.
 
كنا كلما اقتربنا من الصوت.. يبتعد.
 
وكان شخير «البابور» يبدد وحشة الصفيح من حولنا.
 
حشرج الروائي بانفراجة عابرة هذه المرة وهو يقول: إذا أردت أن تصل فلا تنظر للمسافة..
 
فما بيننا وبين هذه الوقائع لا يقاس إلا بالزمن.
 
أعادنا «مراد» لسنوات بعيدة، وعديدة، مضت.. في لحظة.
 
وراح الشخير الجماعي «للبوابير» يتسرب من كتل الصفيح المتناثرة، كلها، ليبث في الفضاء دفئا غريبا.
 
كنّا وإياه نقف أمام كوة الضوء الصغيرة وننظرعلى أمتداد كتل الصفيح المتناثرة والتي تجمد أغلبها ليلا تحت برد الشتاء، وكنا نصغي ونرى بعين قطة كئيبة «عوراء»، ترى وتسمع.. وربما تدرك كأي لاجىء في هذا المخيم.
 
مررنا بالسيدة «شهلا»، أولا، كانت في طريقنا.. أفزعني وجودها الحي بين مقابر الصفيح الجماعية، حيّة وميتة في الوقت ذاته، يا الله.. كم أنت غريب يا «مراد».. حتى تقتل نفسا بغير حق.
 
هز رأسه متنصلا: لا ذنب لي، فقط عليك أن تواصل.
 
اشتدت الرياح وتعمق الصقيع ليصعد إلى سدّة الأرواح الخاوية، تلك الليلة، ويستوطن فيها.
 
وراحت «هرهورة» تتقافز من سقف إلى آخر، باحثة عن شيء ما لترويه.
 
أشارت لنا نحو سقف حار، وحيد، من الصفيح المموج، يتساقط عنه الثلج، وتنفلت من بين فرجاته صرخات هستيرية متتالية وبعض الوهج الجنوني للنار.
 
«أبو خالد».. رجل أشعل ما تبقى لديه من خشب تحت سقف الغرفة الوحيدة لينقذ طفله الوحيد، حديث الولادة من براثن الصقيع.. صحتُ بالراوي، «مراد»، في ذعر: طفح الكيل، وهل سيفلح؟
 
فتح «مراد» صوته المثقوب باتجاه الريح ونحوي: ليلة قاتمة من ليالي اللجوء، تنزلت فيها ملائكة العذاب، من كل حدب وصوب، ماذا يمكنني أن أفعل؟
 
شبح امرأة وحيدة تخاطر في هذا الطقس، تترجل عن حافة الجسر المجاور للمخيم، لتغوص في كتل الصفيح.
 
قال لي مراد بانكسار وألم، هذه «أم حسين».. لا أحد يدري لِمَ انقلبت عليها مزابل الأمم ووكالة الغوث، لتجوع هي وأطفالها. كنتُ كغيري أرقب السيارات العابرة وهي تلتقط بقايا جسدها عن ذلك الجسر، لكن لمْ أرها ولا لمرة وهي تمارس الرذيلة.
 
ضاق صدري فأخذت أشهق في وحل الممرات الضيقة، ثم أزفر في كتل الصفيح.
 
تعمّد الراوي «مراد» بلؤم الكاتب الواثق من استحواذه على ملكات القارىء، وإضعافه تحت تأثيرات عديدة للنص، أن يواصل وببروده المستفز: هذا غيض من فيض.. هناك «وهيبة»، التي انتهت كوجبة شهية للقوارض. وجسد المسكينة «أم العبد» الذي احترق فجأة، ليرحل بكل أسراره.
 
وهناك «شفيقة» أيضا، وتقرير المصير، مصيرها الأسود.
 
للصدق لم يكن لهيئة الأمم شأن في ذلك، فقط والدها الذي تعهد أمام الله والوطن بالحفاظ على نقاء السلالة وقدسية الشرف الرفيع، حتى يوم القيامة.. من قرر ذلك المصير.
 
تلبد الأفق المبلد بعتمة حالكة، تلتها «عتمات» وانسداد.
 
لم أعد أحتمل، فصحت مقاطعا: ملامحهن لم تزل عالقة في ذهني يا «مراد»، بأوجاعهن المزمنة، أأصفهن لك؟ أتدري؟ لحظة الموت، كان يغشى كل واحدة منهن غبار الذل في اللجوء، يغلب بقسوته، ليعلو على أي وجع آخر؟ أأصف لك قسوة الموت في الملامح؟
 
ثم واصلت حديثي مستعطفا: فقط أريد أن أقرأ.. أحب أن أقرأ، لا أريد أن أسمع أو أشتمّ شيئا، لا أريد لتلك الملامح تحت كتل الصفيح أن تنثال كمشاهد حيّة من هذه الصفحات لأرى لحظة الموت وأصغي لصرخة الميلاد.
 
أضفت وأنا ألوذ بالرحيل: أريدك أن تطلق حواسي.. أن تحررها.. لأقرأ، فقط لأقرأ.
 
شيعني «مراد» إلى مثوى مخيمه الأخير.. ليقول بنبرة صافية ورزينة، تنم عن اعتذار مبطن، لم تقو على خدشها عربدة الرياح الفائرة من حولنا: لم يكن في نيتي أن يتسرب هذا الوجع، أو يعلق في سماء الأغلبية، كان في نيتي أن تعرف.. فقط أن تعرف، أنت وغيرك.
 
عندما أطرق الرّاوي ومضى.. هرعت رياح باردة إضافية لتحتل مكانه على الصفحات، عندها لم أعد أرى أو أسمع، كنت أقرأ فقط. تحررت «هرهورة» بدورها وفرّت من قبضة الراوي ومن قيد التداعيات المؤلمة، وراحت تتقافز بين أزقة المخيم الموحلة وأرتال الصفيح البائسة، لتبيت ليلتها الأخيرة تحت دفء الشاحنة التي اختارتها لها وكالة الغوث وهيئة الأمم والراوي.
 
في الصباح وقبل أن أقلب الصفحة الأخيرة، كانت تدوسها عن غير قصد.. لتختفي «هرهورة» وتتلاشى للأبد.