عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Nov-2021

درس من متحف «تايت»*سوسن الأبطح

 "الشّرق الأوسط"

 في فيلم قصير من أربع دقائق فقط، يشرح «متحف تايت» البريطاني للأطفال، كيف يمكن لأي منهم أن يصبح رسّاماً يفتخر به مثل ايتل عدنان، إذا ما فتح نوافذ ذهنه على اللّغات والثقافات مثلها، وحرر نفسه من الأفكار الجاهزة. الفنانة اللبنانية - الأميركية، العصامية التي غادرتنا بعد أن حققت عالميتها بسبب فكرها التحرري ومهاراتها الخلّاقة، ليست الوحيدة التي كانت رسولة تعدديتنا الى الآخرين.
خرجت الفنانة التي أغمضت عينيها هذا الأسبوع، من لبنان في السبعينات من القرن الماضي تحت وطأة الحرب، مدركة في عمقها أن ما يحدث عبثي، وأنها تنتمي لمنطقة ثرية بفسيفسائها، وحضاراتها العابرة للزمن، وتسامحها الذي أتاح لأعراق وأديان أن تتثاقف وتتعايش مئات السنين، وتبقى على أرض واحدة. لم تكن بحاجة لأن تتقن العربية كالجاحظ كي تشرح عند كل محطة، أن الالتقاء في ظل شجرة وليس في صالة فارهة هو فن من فنون العيش، وأن المساجد المزدانة بالسيراميك تدلل على انسجام تام مع البيئة والمناخ وليست قصوراً في الذائقة الفنية، وأنها من بيت مسلم - مسيحي في بيروت، يوضع فيه الإنجيل إلى جانب القرآن على رفّ واحد، ويتحدث أهله اليونانية والتركية والعربية تحت نفس السقف، من دون أن تتنبه الصغيرة، إلى أن شيئاً خاصاً يحدث حولها.
هذه التعددية، يبشّر ويطالب بها الغرب، ويسنّ القوانين من أجلها، وتصرف الميزانيات لتعزيزها، فيما يروّج لها في بلادنا كأنها لعنة القدر التي لا فكاك منها. لكن سلمى حايك في الفيلم الهوليوودي الرائع، الذي أنتجته مع تسعة آخرين بينهم الموسيقي اللبناني غابريل يارد وأخرجه عشرة على رأسهم المخرج الكبير رودجرز الرز، استلهم كاتباً لبنانياً آخر عابراً للقيم، هو جبران خليل جبران، من خلال كتابه «النبي» ليقدم للعالم أجمع بكباره وصغاره درساً في التسامح والتضحية من أجل الحرية. يومها قال المخرج الأميركي إن تنفيذ الفيلم بالنسبة له «كان بمثابة حلم لأن كلمات جبران لامست قلبه عندما قرأه». اخترقت كلمات جبران قلوب الملايين. هو كما ايتل، كتب بلغتين، وتنقّل في القارات، ورسم كما كتب، وبقي أصيلاً حاملاً هموم أمته. ويمكننا أن نتحدث عن أسماء كثيرة، أدركت بعمقٍ ثقافتها، ونهلت منها وسلطت الضوء على قيمها الإنسانية.
الريحاني الذي عاد إلى لبنان في الثانية والعشرين، وبذل جهداً مجنوناً ليتعلم العربية، ويكتب فيها كما واحد من كبار كتّابها، لا بد كان يعرف أنه من قراءتها سيجني خيراً كثيراً. «فالمنطقة المفتوحة على ممر استراتيجي يربط المحيط (هندي) وبحرين (أحمر ومتوسط) وثلاثة خلجان (عربي وعُمان وعدن) بثلاثة أقفال بحرية (قناة السويس ومضيق باب المندب وهرمز). هي منطقة تشبه المرأة السامرية: هناك دائماً شيء مذهل يحدث هناك يلقي بظلاله على الأحداث السابقة»، حسب تعبير المؤرخ الفرنسي بيار رازو.
وأمين الريحاني دائم المقارنة بين شرقه والغرب، كان يعترض على ممارسات هنا، وأخطاء هناك، باحثاً عن السبيل الأمثل لحياة كريمة للعباد. فهو الذي كتب مستنكراً «أليس في وسع المرء أن يُحب ربه من دون أن يبغض أخاه في الإنسانية، ألا يستطيع أن يرفأ ثوبه من دون أن يمزق ثوب جاره، أليس في مُكْنَتِهِ أن يصلي من دون أن يسب ويلعن ويتمنى لمن لا يصلي مثله الاصطلاء بنار الأبدية»؟
من ذهبوا إلى الغرب، وإن نال بعضهم قسطاً من الشهرة، ليسوا بالضرورة أقرب إلى النزعة الإنسانية من شيخ مثل العلّامة عبد الله العلايلي أو كاتب التصق بقريته كما مارون عبود، أو صاحب «كيف ينهض العرب» عمر فاخوري. ولهؤلاء مثيل على امتداد الجغرافيا العربية، التي اعتادت المختلف وتعايشت مع الآخر، بحكم الجيرة والصداقة والمودة الخالية من حسابات المصلحة، إلى أن جاءت السياسة وضربت الوئام.
ذاك تثاقف، جذوره قديمة من أيام الغزالي والجاحظ والتوحيدي، الذين أعادوا الحكم للعقل لا للعاطفة وخداع الحواس. لأننا كما يقول الأخير «نساق بالطبيعة إلى الموت، ونساق بالعقل إلى الحياة». فليس من خلاص إلا بإعمال الألباب، وقبول «الحرية مع الألم» لأنها «أكرم من العبودية مع السعادة»، كما علمنا الإمام الغزالي. وهو الذي حثّ على تقبّل الآخر، بكل عوراته، فـ«نقص الكون هو عين كماله، مثل اعوجاج القوس هو عين صلاحيته. ولو أنه استقام لما رمى».
منذ القرن الرابع الهجري وإنسانوية الأدب العربي واضحة، وهي متأتية من طبيعة المجتمع المنفتح، الثري، المختلط، التعددي، الذي استظل بإسلام سمح. وذاك ما درسه المستشرقون قبل العرب، كما يحدث دائماً.
إيتل عدنان خلال لقاء في باريس قبل سنوات، شرحت أن الغرب من زمن أرسطو والحضارة اليونانية، ينحو إلى جعل اختيار الإنسان دائماً بين شيئين، مع أن الأمر ليس كذلك. «يأتيك السؤال، تحب الحلو أم المالح؟ أنت مسلم أم مسيحي؟ يميني أم يساري؟ قد أكون الاثنين معاً. وقد لا أكون مهتمة بالاختيار أصلاً. هذا حق لي. ومن حقي أن أغير رأيي اليوم، عما فكرت به بالأمس، أو أن أناقض ذاتي. لا يمكن أن يكون للسؤال الواحد إجابة منفردة، قاطعة، بل هي دائماً، مجموعة من الإجابات».
وصف الناقد هانس أولريش أوبريست، ايتل عدنان بأنها «فنانة، لها على الأقل 11 بعداً». أضيف من عندي، أن البعد الإنساني، الانفتاحي، الشرقي عند عدنان، الذي كان يعيدها دائماً إلى منشئها، ويتفاعل بالمقارنات والمشاهدات، والاستنتاجات المحبة الذكية، هو الذي منه تفرعت وتفجرت إبداعاتها. وإذا كان من سؤال في النهاية، لماذا لا نرى في ثروتنا الثقافية التعددية سوى عوراتها ومعايبها، ولا ننبش في البئر الغزيرة، ونصرّ سلفاً على أنها نضبت ولا أمل منها؟