عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Mar-2021

الجزائر… مشقة التحرر من الثقافة المحلية

 القدس العربي-سعيد خطيبي

إطلاق اسم على مؤسسة ثقافية، حديثة الإنشاء، في بلد مثل الجزائر ليست مهمة سهلة، بل قد تتحول إلى قضية سياسية شائكة، أو تثير تنافراً بين الناس، وقد تنجر عليها خلافات، هي مسألة يتدخل فيها الجميع، وينخرط فيها المثقف وغير المثقف في إبداء رأيه، موافقاً أو معترضاً، كما حصل بداية هذا العام، عندما أطلقت سلطات مدينة باتنة (شرق البلاد) اسم الملحن تيسير عقلة على معهد للموسيقى.
كان بالإمكان أن يمر هذا الحدث مروراً سلساً، لاسيما أن الشخص الذي علا اسمه هذا المعهد، موسيقار، لا يختلف اثنان في أفضليته الفنية ولا في رصيده الطويل، كما إنه كان قائد جوقة الإذاعة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي، سبق له أن لحن عدداً من الأناشيد الوطنية، التي لا تزال تبث في أعياد الثورة، كما إن تيسير عقلة اختار الجزائر موطناً له، بعد استقلالها، وأوصى أن يُدفن فيها، وقد لاقى جنازة رسمية، ورافق جثمانه إلى مثواه الأخير قبل خمس سنوات عدد من كبار مسؤولي الدولة، إقراراً واحتراماً لسيرته.
لكن الأمور لم تسر على النحو الذي يجب، فمباشرة بعد إماطة الستار عن تسمية ذلك المعهد، حتى اشتعلت حرب كلامية، في مواقع التواصل الاجتماعي، وتعإلى الهمز والغمز هنا وهناك، ووصلت حمى الغضب الشعبي مكاتب المسؤولين، فقد اعترض فنانو مدينة باتنة وبعض ساكنتها على ترسيم اسم تيسير عقلة، وحجتهم أنه ليس جزائرياً وليس من فناني تلك المدينة، كما لو أن الهوية الجزائرية تحكمها وثيقة الجنسية، وليس الانتماء الروحي للبلد وخدمته، وكم من شخصية تاريخية أو نضالية أجنبية وقفت جنب الجزائريين، لكن لا يزال ينظر إليهم كما لو أنهم غير جزائريين، هكذا فإن الجزائري بات مقيداً بوثيقة لا بجدوى الخدمات والفضائل التي يؤديها، هل نختصر علاقة الجزائري ببلده في ورقة؟ لم تجد وزارة الثقافة بداً سوى الامتثال لذلك الضغط المباغت، وسارعت إلى تغيير تسمية ذلك المعهد، وبدلت اسمه باسم الفنان عيسى جرموني، مع أن شهرة عيسى جرموني تطوف أرجاء الجزائر بأكملها ولا تختصر في لافتة معدنية فوق مدخل معهد للموسيقى.
هذه الواقعة وعلى ما تبدو أنها واقعة عابرة فإنها تفضح منطقا جزائرياً خالصاً، في انحيازه إلى محليته، وقلة تقبله للأجنبي وكل ما يختلف عنه، هذا المنطق الذي يرى أن الجزائر للجزائريين لا غيرهم، كما لو أنها جزيرة معزولة عن إقليمها، متناسين أن تاريخها شارك فيه وصنعه أيضاً عرب وإسبان وإيطاليون وفرنسيون، وآخرون من المستعمرات القديمة، يفصح عن انفصام عندما يتعلق الأمر بتسمية مبانٍ أو شوارع بأسماء جزائريين في الخارج، يرون فيه انتصاراً رمزياً لهم، بينما يرفضون انتصار الآخر في مجاورتهم بلدهم.
 
لم نصل بعد إلى مرحلة تصير فيه الجزائر أكثر انفتاحاً على جوارها والعالم، لا تزال ثقافة مقيدة بحبل طويل يعيدها كل مرة إلى محليتها، ويمنع عنها الانعتاق من الانغلاق الذي يغشاها منذ عقود.
 
قبل أيام قليلة كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن قائمة تضمنت 318 شخصية ثقافية وتاريخية، من فرنسيين وغير الفرنسيين، أوصى عُمد البلديات الفرنسية اعتمادها مستقبلاً في تسمية المؤسسات والشوارع، وقد احتوت القائمة ـ كما كان منتظراً ـ أسماء كتاب وفنانين جزائريين، إقراراً من الفرنسيين بفضلهم، من بينهم: محمد أركون، سليمان عازم، محيي الدين بشطارزي، مالك شبل، إيدير، مولود فرعون، نبيل فارس، وردة الجزائرية، الشيخة الريميتي، كاتب ياسين، محمد ديب، محمد زينات، آسيا جبار وغيرهم. بمجرد الإفصاح عن تلك القائمة، وما جاء فيها من أسماء كتاب وفنانين جزائريين، حتى قابلتها تهليلات في الضفة الأخرى من المتوسط، نشطت الصحافة المحلية في الجزائر في الإشادة بهذه الخطوة، منهم من اعتبرها انتصاراً على المُستعمر القديم، الذي بات يعتز بفضل الجزائريين عليه، مع العلم أننا لا نجد اسما فرنسياً على نواصي الشوارع أو يعتلي المؤسسات في الجزائر، عدا حفنة ضئيلة جداً منهم، ممن شاركوا في حرب التحرير. إزاء هذا الانفصام من رفض تسمية المنشآت بأسماء أجانب في الجزائر، والفرح بأن يُطلق اسم جزائري في الخارج، يضطرنا السؤال: ماذا حصل كي تصير الساحة الثقافية في الجزائر منغلقة على نفسها إلى هذه الدرجة؟ لماذا لم تنخرط بعد في نظرة كونية، ولا تزال مكتفية بمحليتها؟
كان يمكن لقضية معهد الموسيقى في باتنة، أن تكون نقطة مضيئة، وتستحق الإشادة، لو أن طائفة المثقفين هناك دافعوا عن خيار إطلاق اسم فنان على المؤسسة، بغض النظر عن نسبه أو أصله، وأن يؤسسوا تقليدا في الدفاع عن تسمية المباني بأسماء فنانين أو مثقفين، لكنها ظلت قضية داخلية، تخص تلك المدينة وحدها، تفيض بالأنانية، لأننا بالمقابل، من خلال مسح خريطة المنشآت الثقافية والعلمية في البلد، سوف نجد أن غالبيتها تحمل مسميات بعيدة كل البعد عن الثقافة، فمن بين العشرات من الجامعات التي تزخر بها الجزائر من النادر ما نجد جامعة تحمل اسم مثقف، إلا ما ندر منها، مثل جامعة ابن خلدون، الجيلالي اليابس، أو أبو القاسم عبد الله، بينما بقية الجامعات الأخرى فإنها إما تحمل اسم شخصية سياسية أو حربية، مثلا كل رؤساء الجزائر السابقين الذين وافتهم المنية صارت ترصع أسماؤهم جامعات أو مراكز جامعية، في هذه الفوضى من التسميات، لا أحد انشغل، أو تساءل ما هي حجة إطلاق اسم شخصية سياسية خالصة على مؤسسة علمية ثقافية؟
جرت العادة أن أي مؤسسة جديدة (على قلة المؤسسات الجديدة في الجزائر اليوم) إنما يطلق عليه اسم شخصية سياسية أو مستوحاة من حرب التحرير، من دون أن يعترض أحد على ذلك الخيار، يستحيل أن نجد أي مبنى في الجزائر بأكملها باسم أجنبي (عدا أسماء الصحابة أو التابعين أو ندرة من أجانب شاركوا في حرب التحرير حصراً)، لم نصل بعد إلى مرحلة تصير فيه الجزائر أكثر انفتاحاً على جوارها والعالم، لا تزال ثقافة مقيدة بحبل طويل يعيدها كل مرة إلى محليتها، ويمنع عنها الانعتاق من الانغلاق الذي يغشاها منذ عقود.
 
كاتب جزائري