الدستور
حين ترتفع نسبة تخصيب اليورانيوم في إيران لتتجاوز الخمسين بالمئة خلال ثلاثة أشهر، لا يكون هذا العمل إنجازا تقنيا فحسب، بل مؤشرا على تحول عميق في معادلة الردع والتفاوض. فإيران لا تنظر إلى القنبلة النووية كسلاح بحد ذاته، بل كورقة تفاوضية، وخيار احتياطي في عالم تضيق فيه فرص الأمان.
وتصريحات ترامب وتهديداته لم تكن فقط جلبة إعلامية، بل جزء من إستراتيجية أمريكية أشمل تهدف إلى تفكيك البرنامج النووي الإيراني، وربطه بملفات إقليمية أوسع كالحرب في أوكرانيا ودور روسيا في المشهد العالمي. وهنا، يبرز الدور الروسي كلاعب لا غنى عنه، يسعى إلى جمع الأطراف على طاولة واحدة ولكن وفق شروطه هو.
ورغم هذا فإيران اليوم، لا تبدو مستعدة للتنازل عن مشروعها تحت الضغط الهائل. بل هي تنظر إلى القنبلة، وإن كانت سابقا خيارا، كنتيجة مفروضة على من يضيّق الخناق عليها. وتصريح وزير الخارجية الإيراني بأن البرنامج النووي لا يمكن تدميره لأنه راسخ في العقول، يعكس رؤية تؤمن بأن المعرفة لا تُقصف، والتكنولوجيا لا تموت بالعقوبات.
التهديدات الإسرائيلية، وعلى الرغم من جديتها، فهي تصطدم بواقع معقد ومربك. أي هجوم عسكري واسع النطاق لربما يفجر ردا إيرانيا عنيفا، لا يستهدف إسرائيل فقط، بل سيمتد إلى القواعد الأمريكية المنتشرة في الخليج. ومن وجهة نظر طهران، فإن هذا الرد سيكون بداية لفصل جديد من الاضطرابات التي لن تخرج المنطقة منها بسلام.
على ما أرى، فإن الحسابات الإيرانية ليست قائمة على التحدي وحده، بل على قراءة واعية للمشهد الدولي. تدرك طهران أن الغرب منشغل، وأن لروسيا مصلحة في استمرار إيران كورقة ضغط إقليمية، بينما ترى الصين في التصعيد الأمريكي فرصة لتعزيز حضورها وتحالفاتها في الشرق الأوسط. لهذا ترفض إيران التفاوض تحت وطأة التهديد، وتدفع باتجاه مفاوضات ناضجة تُبنى على تقاطع المصالح لا على الإملاءات.
اليوم، لا يُقاس البرنامج النووي الإيراني فقط بكمية اليورانيوم أو عدد أجهزة الطرد المركزي، بل بمدى قدرة طهران على فرض شروطها، وانتزاع موقع في مشهد عالمي يعاد تشكيله. وفي خضم كل ذلك، تظل القنبلة النووية حاضرة كظل ثقيل، لا يغادر الصورة حتى يُعاد رسم ميزان القوى من جديد.