عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Jan-2019

قصتان من بغداد وعمان* ماهر أبو طير

 الغد-كنت في بغداد، عام 1992، وقد بدأت آثار الحصار تظهر جلية على العراقيين، من تجويع وحصار وقلة دواء، ومن حي الى حي، كنا نجول في المدينة، وبرفقتي صحفيون أجانب وعرب، يكتبون قصصهم عن العراق.

ذات ليلة، قرأت نصا مكتوبا لصحفي بريطاني، لم يرسله الى لندن، وكان ينتظر مغادرة العراق، حتى يبرقه الى صحيفته، وكان أكثر خبرة مني، وانا في سنتي الأولى، صحفيا، واثار انتباهي يومها، كتابته عن الروح المعنوية للعراقيين، و انها منخفضة جدا، فسألته كيف عرفت ذلك، وانا معك في كل الجولات، ولم ارك تسأل عراقيا واحدا عن حاله واحواله، فكيف استنتجت كل ما كتبته هنا؟
اجابني بكل ثقة، ان الصحفي الأجنبي، في بلد محكوم امنيا بقسوة، وخارج من حربين للتو، الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الكويت، لا يمكن ان يفترض ان هناك عراقيا واحدا قادر على تقديم شهادته، وعندها تكون بصيرة الصحفي، بديلا في مثل هذه الحالة الحساسة بكل مخاطرها أيضا.
افاض علي من خبرته وقال: هل رأيت عراقيا واحدا في الأسواق، قد حلق ذقنه في الصباحات التي كنا نجول فيها في الأسواق، اجبته بلا، هل رأيت عراقيا واحدا قد ارتدى قميصا بكل اناقته، او تم كويه كما يفترض، اجبته بلا، مع وجود قلة هكذا، هل رأيت عراقيا واحدا لا يمشي مضطربا، او مشتت الذهن، او قد احنى ظهره، اجبته بلا، مع وجود قلة مستثناة، سألني هل رأيت عراقيا واحدا لا يرتسم على وجهه غضب او ضيق او كآبة، اجبته بلا؟!.
اسكتني لحظتها وقال يا فتى، عليك ان تقرأ لغة الجسد، حين تغيب الحوارات، وتستحيل المكاشفات ، لاسباب سياسية او اجتماعية او امنية، وانا متأكد من ان الروح المعنوية للعراقيين هابطة، وفى ادنى مستوياتها.
علمتني هذه التجرية الكثير، في مهنتي، وإذا كنا في بيئة كما الأردن، تعد مختلفة تماما، فلا حصار عليها كما هو مفترض، الا ان تلك القصة تركت علي اثرا كبيرا، في قراءة الناس، والتقاط الفروقات، وقراءة اللغة الصامتة التي تتجلى في تصرفاتهم وحياتهم بوسائل مختلفة، فتعرف ماذا يقولون دون ان يقولوا ذلك؟.
قبل أيام ذهبت صبيحة يوم سبت الى وسط البلد في عمان، وبرغم اننا جميعا قد لا نغيب كثيرا عن هذه المنطقة، الا انني لأول مرة، المس حالة مختلفة بين الناس، من سائق التاكسي الذي صعدت معه ذهابا الى وسط البلد، الذي امضى الطريق وهو يشتم كل شيء يعرفه، من زوجته وجاره وصاحب التاكسي، وحفر الشوارع، وكثرة المخالفات وصولا الى الحالة العامة بين الناس وسط البلد.
وجوه مكفهرة، اصحاب المحلات التجارية يقفون على أبوابها، وقد ارتسم اليأس على وجوههم، اعداد الناس في وسط البلد قليلة، تدخل مطعما فيكاد صاحبه او من يعمل فيه، ان يضربك اذا سألته طلبا اكثر من مرة، كل الذين يتناولون طعام افطارهم في قاع المدينة افرادا او عائلات، في حالة تخشب وتعب، لم يبددها هذا المشوار الى مكان جديد، باعة الكتب لا يفعلون شيئا، والكتب تحولت اوراقها الى صفراء، جراء قلة الاقبال، طريقة مشي الناس في وسط البلد، مضطربة، وكأنهم في حالة تيه، اغلب الناس يعانون من تشتيت الذهن، او السرحان.
الباعة الصغار، يصرخون ولا احد يتوقف عندهم حتى من باب الفضول، وحتى التاكسي الذي يعيدك الى بيتك، لا يختلف عن سابقه، فالكل يتحدث في الموبايلات، لكن صاحبنا في رحلة العودة، يصرخ على زوجته كل قليل، بسبب فاتورة الكهرباء، او يقطع مكالمتها ليهدد شخصا اخر، احتال عليه بدين قيمته عشرون دينارا، ولايترك مفردة سوقية، او محرمة أخلاقيا الا ويقولها.
تعود من وسط البلد، وقد تضاعف تعبك، فهذه هي روح المدينة، والذي يجول فيها لساعات يدرك ان الروح المعنوية للأردنيين منخفضة، وان التعب بلغ اشده، وان الحيوية اختفت، بسبب الظروف الاقتصادية، وكثرة الالتزامات، والديون، والمخاوف من المستقبل.
تسأل نفسك، اذا ما كنا امام حصار من نوع آخر يفرضه علينا العالم، دون ان يعلنوا ذلك صراحة، مادامت أحوال الناس قد وصلت الى هذه الحالة الصعبة التي لا نجد لها حلا، سوى بمزيد من أغاني الحرب الصباحية، وكأنه ينقصنا توتير فوق ما فينا من توتر، اشتهرنا فيه، او استجد علينا.