عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Nov-2020

نموذج «النسوية» بين التنميط والتعميم والتعامل الفئوي… إلى سارة الشمري: «ماذا لو هدأتِ قليلا»؟

 القدس العربي-حمزة قناوي

عند تناول المقال الذي قدمته الكاتبة سارة مبارك الشمري رداً على مقال إبراهيم نصر الله «ماذا لو كانت امرأة بطلة موسم الهجرة إلى الشمال»، بعنوان «رداً على إبراهيم نصر الله «ماذا لو»، والذي نشرته «القدس العربي» في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، تتجلى لنا عدةُ ملاحظات، أولها ملاحظة جوهرية تحتاج أن نبينها حتى لا نمضي في اللغة التهكمية ذاتها التي استخدمتها الشمري في موضوعٍ أدبي ثقافي، أول هذه الأخطاء وأكثرها وضوحا، أن الكاتبة تردُ على المقال بوصفها ممثلةً لكل النساء، فهي لا تحاجج وجهة نظر إبراهيم نصر الله، ولا تبدي وجهة نظرها كمؤلفة في كتاباتِ روائيٍّ ـ لا نقول أكثر قيمة أو جودة أو إنتاجاً أدبياً ـ بل سنقول إن المفترض أن المقال الذي يتبنى رداً على من يطرح قضايا فكرية وثقافية، يجب أن يكون مشتملا على قواعدَ منطقيةٍ للحوار لا السخرية، فاختلاف وجهات النظر لا يعني التندر، واستخدام اللغة الموحية المُنتَقِصَة، وعلى كلٍ، وحتى لا يقع مقالي في دائرة «الشخصنة» نفسها التي وقعت فيها سارة، فقد توجّب أن أحدد الأساس الذي سأبني رؤيتي عليه، وأن أوضح الخطأ الجوهري الذي انطلقت منه هي، في أنه كان يفترض عليها مناقشة الموضوع في إطار يبعد عن كونها ترد ممثلةً للنسويةِ العربية لكل نساء العرب ـ وربما لا نراها ذات قدر تمثيل ذلك حتى إن أرادت ـ ويجب ألا يتم التعاطف معها من قبل النسويات بصورةٍ مطلقةٍ ومرسلةٍ بدون تمحيص وتفكر، بوصفهن يناصرن امرأة في مواجهة «تعصب» رجل، فليس رأيها هو كل الرأي النسوي الذي يمكن أن يقال عن هذه المسألة؛ وإلا فإنهن يظلمن أنفسهن ويظلمن القضايا التي يناضلن من أجلها.
مضت الكاتبة في ردها على إبراهيم نصر الله، بانيةً مقالها على فكرة «إظهار العين الحمراء» والتشكيك في قدرات الكاتب، والسخرية من إنتاجه، وفي مقالها تجاهلت الجوهر الرئيسي الذي طرحه إبراهيم نصر الله، لتحاول أن تدلل على مفهوم خاص بها، هو أنه ممنوعٌ على أي رجل أن يقترب من فكرة مناقشة قضايا المرأة، من وجهة نظر تخالف ما نرسمه له نحن النساء متبنيات النسوية، فما تقوله النساء عن قضايا المرأة يجب أن يتم أخذه كمُسلَّماتٍ، وكأن لسان حالها يقول: إذا ما أردتم أن ننظر لكم بوصفكم تناصرون قضايا المرأة، فعليكم أن تتحدثوا عن النماذج ذاتها التي نتناولها، هي القدوة وهي المثل، وفي مجمل مقالها الذي يبعد كثيرا عن الموضوعية، والذي أغلبه عبارة عن تهكم وسخرية، لم نجد شيئاً موضوعياً أدبياً يمكننا أن نناقشه سوى نقطة سأعرض لها لاحقاً.
وقعت الكاتبة في خلطٍ بيّن، ويبدو أنها لم تقرأ المقال لنهايته، فقد استفزتها المقدمة، لترد عليها بهذا الشكل المنفعل، تحت شعار الدفاع عن حقوق المرأة وعن النسوية، لكن مقالي هنا يأتي من باب الموضوعية والانتصار للقضية في ذاتها، وليس انحيازاً للكاتب، التي لخصها نصرالله في نهاية مقاله بضرورة «ألا نعتبر أي نموذج يتم تناوله في الرواية، سواء عن رجل أو امرأة، أو حتى ضابط شرطة أو قاضٍ أو طبيب، ألا نعتبر هذا النموذج ممثلاً لكل الفئة التي يتناولها، ولا هي رؤية الكاتب لكامل هذه الفئة»، ودلل على ذلك بعرضهِ للعديد من نماذج الشخصيات النسائية في كتاباته، منهن من كانت قوية، وواجهت وتحدت الواقع، ومنهن من كانت ضعيفة ومنكسرة، هنا يتناول المؤلف الشخصيات كما في الواقع، ويقر مسبقاً، بأن المرأة تتعرض لظلم اجتماعي، لكن الأولوية عنده في رفع الظلم الاجتماعي عن الجميع، المرأة والرجل، ومن ثم فمثلما هناك مذهب للنسوية، كان يجب أن يكون هناك أيضاً من يدافع عن فئات المشردين والمهمشين، وكل الفئات الواقع عليها ظلمٌ اجتماعيٌ. فالدعوة هنا لرؤيةِ الظلم الاجتماعي في صورته الكلية، وليس لتنميط الروايات العربية، حتى لا تصبح سيفاً مسلطاً على رقاب الروائيين.
 
رد سارة الشمري على إبراهيم نصر الله، يبتعد تماماً عن إطار الموضوعية، ويخرج من دائرة النقاش الثقافي، وطرح القضايا الأدبية، إلى دائرة الصياح وفرض التعسف والرأي المتشدد على الطرف الآخر، مستغلةً فكرة أن هناك من سيندفع بشدة لتأييدها، بدون أن يقرأ المقال الأصلي من ناحية، وبدون أن يجازف في الوقوف في وجه تيار النسوية من ناحية أخرى.
 
على الأقل اعتبروها دعوةً لحرية التعبير، دعوة لأن يكتب المؤلف ـ أي مؤلف – وليس على رقبته سيف نُقاد النسوية، بدون أن ينظر إلى كل هذا الكم من الدراسات التي كل ما يهمها «صورة المرأة في الرواية»، بدون أن يهمها التساؤل: «ما الذي أدى لهذه الصورة»؟ ولا جوهر العمل الأدبي في حد ذاته، وبجانب ما قاله إبراهيم نصر الله، وأنا يا سارة ممن قرأ قدراً معقولاً من هذه الدراسات النسوية، أستطيع أن أقول لكِ باطمئنان، إن أغلبها لا يهتم بالمرأة ككائن، بقدر ما يهتم بأن يغرد في هذه الجوقة عالية الصوت، وأن يكون محمولاً في قالب الدفاع عن المرأة، أغلب هذه الأعمال تبتعدُ عن جوهر العمل الروائي وجودته، وتغفل عن النقطة الأهم في هذه الأعمال، ألا وهي كيف يعامل الرجل المرأة ومسلكيته إزاءها؟ وكيف نصل إلى فكرة العدالة الاجتماعية والسلوك الإنساني النبيل والرفيع في الحياة، بدون التمييز بين رجل أو امرأة، فليس من الصواب في تصوري أن نتصدى للتمييز ضد المرأة ونحاربه فنقع في فكرة كراهية الرجل، ولا يعقل أن يكون الطريق «السهل» لأي كاتب أو كاتبة ترغب في الشهرة، أن تكدس في أعمالها الأدبية نماذجَ من النساءِ الساقطات والمدمنات، ثم نجعلهن بطلاتٍ ونجومَ مجتمعٍ، ويكون ذلك بحد ذاته فخاً غير محسوسٍ للتنازل عن القيمة الفنيةِ الأدبية في بنائية العمل.
إذن نسجل أن كاتبتنا لم ترد على جوهر الموضوع، ولم تُقدم الرد الأدبي الذي يمكن أن يطرح قضيةً جوهرية، أرى أيضا أنها تستحق الرد، التي هي من وجهة نظري: هل نحن على الطريق السليم لمناقشة قضايا المرأة في الأدب العربي خاصة في جنس الرواية؟ أم أن الأمر تحول لظاهرة تشبه ظاهرة «التريند» في السوشيال ميديا، وصار الجميع يرغب في الكتابة عن هذا الموضوع بأي شيءٍ والسلام، وفي المقابل يرحب النقاد بهذه الفكرة، ويتقبلون أي كتابةٍ عن المرأة قبولَ الفاتحين مهما كان مستواها الأدبي؟ وهل يعقل أنه عندما يطرح أي أديب أو كاتب نموذجاً سيئاً لفئةٍ اجتماعيةٍ ما، أن يتم التعامل مع هذا النموذج على إنه إساءة وإهانة لجميع عناصر هذه الفئة؟ ألا يوجد في كل الفئات الجيد والرديء؟ هذا هو جوهر الموضوع من وجهة نظري.
النقطة المنطقية الوحيدة التي أوردتها الكاتبة هي، استشهادها بكتابات سحر خليفة، وفدوى طوقان، والخطورةُ هنا أنها تُقدّمُ تنظيراً لما تراه من وجهة نظرها أنه عملٌ عظيمٌ عن أعمال النسوية؛ هو فكرةٌ لـ»كيف يجب أن تكون الكتابة في هذا المجال»، فهي ترى أن فعل سحر خليفة من اختيارها لشخصياتٍ نسائيةٍ سيئةٍ من المنظور الاجتماعي، ثم وضعها في سياق مقاومة الاحتلال، هو فعلٌ من أفعالِ النضال في قضايا المرأة، والحقيقة أن هذا الفهم يكشف عن محدودية في الرؤية لدى الكاتبة، في تصوري، لما يجب أن يكون نضالاً عن قضايا المرأة في المجتمع العربي، فهل كل المطلوب مجرد تغيير نظرة الرجال للسيدات السيئات؟ هل هذا ما سيحقق العدالة الاجتماعية للنساء؟ أم المطلوب مناقشة الظروف والعوامل الاجتماعية والظروف الاقتصادية والسياسية، التي أدت إلى انحراف هذه الشخصيات؟ هل المطلوب أن نلغي القيم الأخلاقية، أو نعيد تعديلها، بحيث لا تصبح ما تقوم به المرأة جرماً أخلاقيا (طالما أنها امرأة فحسب؟) ليصبح موضوع الأخلاقيات خاصاً بالرجال فقط؟ إننا نناضل ككتاب للرواية في سيادة القيم الأخلاقية في المجتمعات العربية، نرغب في النظرة السيئة للبلطجي بالنظرة السيئة ذاتها للمستهترة بالفضيلة، وننظر للقواد أو القوادة على أنه/ أنها متاجرٌ في البشر، هنا تظهر مشكلة كبرى، هي مشكلة اهتزاز القيم، أو عدم وجود مساحة مشتركة من القيم نتفق عليها.
نحتاج إذن أن تكون هناك أسس واضحة للمجتمع، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن الكثيرات من حاملات هم النسوية مشكلتهن الحقيقية (علمياً وموضوعياً) أنهن لا يعرفن ما الذي يردنه بالضبط للمرأة في المجتمعات التي يعشن فيها، إنهن يتحدثن دائماً عن الظلم الواقع عليهن، لكنهن لا يتجاوزن أكثر من ذلك نحو كيفية رفع هذا الظلم، ولا يعرن أهميةً لباقي الفِئات، رغم أنني أفترض أن النسوية يجب أن تهتم أيضاً بالطفولة، وأن تنظر المتبنيات لها على الأقل النظرة المتساوية للجنسين في مرحلة الطفولة، باعتبار أن الطفل الذكر لم يعرف بعد معاني التمييز ضد النساء، وأنه حتى لو حدث تمييز له ضد أخته الفتاة، فإن ذلك نوع من الظلم الواقع على كل منهما، وليس لسوء فيه، ومع ذلك، قليلة أو شحيحة اهتمامات النسوية بالأطفال في صغرهن. لدينا في القضية الرئيسية خلل جوهري في عدم الاعتراف بتضخيم ظاهرة النسوية في العالم العربي، ولدينا خلل في القضية العامة بانحراف المدافعات عن حقوق المرأة عن الغرض الرئيسي لهذا الدفاع، وتحول معهن الدفاع لمجرد هجوم انفعالي على الرجل، وليس محاولة إيجاد الرجل الذي يحقق معهن صورةً متكاملةً للحياة، لا تقوم على انحياز لجنس دون آخر، ولكن على النقيض من ذلك، تحاول النساء من المناديات بقضية «النسوية» تعويض التمييز ضد المرأة، بالتمييز ضد الرجل، وليس بتحقيق العدالة بين الرجل والمرأة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، هناك مشكلة التنميط والتعميم، والتعامل الفئوي مع كل طرح يطرحه أي كاتب، رغم أننا مُقرّون بأننا جميعاً بشر، عرضة لأن نقع في الخطأ والزلل، وهكذا لو تعرض الأمر لضابط شرطةٍ أو قاضٍ أو طبيب، هكذا طوال الوقت هناك سيف الفئوية مسلط على رقبة المبدع.
ومن ناحية أخرى أقل عمومية، فإن الرد الذي قامت به سارة الشمري على إبراهيم نصر الله، يبتعد تماماً عن إطار الموضوعية، ويخرج من دائرة النقاش الثقافي، وطرح القضايا الأدبية، إلى دائرة الصياح وفرض التعسف والرأي المتشدد على الطرف الآخر، مستغلةً فكرة أن هناك من سيندفع بشدة لتأييدها، بدون أن يقرأ المقال الأصلي من ناحية، وبدون أن يجازف في الوقوف في وجه تيار النسوية من ناحية أخرى، وهو مبدأ غير نزيه أو موضوعي في القضايا الفكرية والثقافية، وأدعو إلى ترك لغة الفردية والتهجم والتهكم والتعامل بشكل عنيف عدواني مع الطرف الآخر، لنحاول بدلاً من ذلك أن نناقش قضايانا الحقيقية، بهدوء، حتى إن كان هناك من بين القضايا التي نناقشها ما يبدو أنه رأي تقليدي لا حداثياً أو ذكوريا من وجهة نظرهن، فعليهن أن يكن جاهزات بالرد والتوضيح والتعقيب، وليس بالتشكيك في الكتابة والمؤلفات، فيفترض أن تكون «النسويات» مثالاً يُحتذى به في كيفية الحوار والإقناع، لا اللجوء إلى التهجم على الآخر وإلغاء منجزه مع أول نقطة اختلاف.
ويا سارة: ماذا لو كان إبراهيم نصر الله لم يكتب مقاله هذا.. هل كان ذلك سيمحو منجزه وتاريخه ورواياته التي ينتجها سنوياً، ويزعجك أنه ينقّحها أربع مرات؟
وماذا لو راجعت أنتِ مقالك أربع مرات مثله؟ هل كنتِ ستصلين إلى النتائج نفسها؟ وماذا لو هدأت قليلاً يا سارة؟
 
٭كاتب مصري