عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Aug-2020

العزلة.. خيار نافع أم تتحول مع الوقت لحالة مرضية؟

 

ربى الرياحي
 
عمان – الغد- ضغوطات مادية كبيرة وأخرى اجتماعية وشخصية تلك التي تدفع الثلاثيني عمار إلى اللجوء للعزلة بين الحين والآخر؛ إذ يجد فيها خيارا نافعا بشرط أن تكون ضمن المعقول بعيدا عن المبالغة التي قد تحولها إلى وحدة وبالتالي تصبح حالة مرضية ضارة.
ويوضح أنه هو شخصيا يتعمد الاستكانة للعزلة ولكن ليس لوقت طويل هو يجد أن الراحة التي توفرها له العزلة تساعده كثيرا على إعادة ترتيب أوراقه والتخفف من هموم أرهقته حتى لو مؤقتا.
عمار يعي جدا أن خيار العزلة هذا ينتزعه من ضجيج الحياة المتعب، ويسمح له بأخذ قسط قصير من الراحة، هو في تلك الأوقات تحديدا يكون قادرا على تحليل كل الأمور والتفكير بها بهدوء، بالإضافة إلى أنه يعيد حساباته في كل صغيرة وكبيرة، ويحاول تصويب ما يمكن تصويبه وترميم الكثير من العلاقات التي قد تتأثر بسبب الهموم اليومية وجدول المهام المزدحم.
العزلة خيار يلجأ إليه الكثيرون هربا من فوضى الحياة وبحثا عن أنفسهم، هؤلاء يرون في ذلك الوقت القصير حياة أخرى تحفزهم على الإبداع والتفكير والتأمل وقراءة كل ما يحدث معهم بأعين جديدة تقدس فكرة أن هناك لحظات خاصة يحتاج لأن يعيشها الشخص مع نفسه بعيدا عن المتاعب والهموم وذلك الضجيج المستمر المرافق للروتين اليومي.
هذا النوع من العزلة، تحديدا التي لا تخرج عن كونها استراحة، لا بد منه بين فترة وأخرى، فهو يمنح الإنسان مساحة كافية لاسترجاع شريط حياته والتوقف عند بعض المحطات لغربلتها والتعلم منها قدر المستطاع.
والسؤال هنا متى تكون العزلة نافعة ومتى تتحول إلى حالة مرضية؟
الثلاثينية إيمان التي خسرت الكثير ممن تحب بسبب انعزالها الدائم وابتعادها عن الناس، تقول “إن المبالغة في العزلة تحرمنا من أن نعيش الحياة بكل تفاصيلها وتجعلنا أغرابا عن أقرب الناس إلينا”، مبينة أنها سجنت نفسها لفترة طويلة داخل غرفتها التي لم تكن تخرج منها، إلا للضرورة، لاعتقادها أن تلك العزلة ستريحها من مشاكل كثيرة وأحداث هي بغنى عنها لا تعنيها مطلقا.
لكن إيمان، ومع مرور الوقت، اكتشفت أنها أضاعت الكثير من الأشياء الجميلة وباتت غريبة حتى عن نفسها ولم يعد هناك ما يربطها بمن حولها حتى كلامها أصبح قليلا جدا، وفقدت محبة أقرب أصدقائها واهتمامهم.
هي، وبسبب عزلتها، باتت اليوم وحيدة وذلك لأنها وبطريقة غير مقصودة أشعرت كل من يعرفها ويحبها أنها مستغنية عنهم جميعا وأنها ليست بحاجة لهم، بل اكتفت بعالمها الخاص الذي بنته وقررت أن تصنع تفاصيله بمفردها ومن دون أن يكون لأحد حق اختراقه.
العشرينية آيات خالد هي أيضا، ومن خلال تجربتها الشخصية مع العزلة، ترى أن الجميع يحتاج لوقت خاص به يقضيه مع نفسه، وهذا لا يعني أبدا أنه يميل للوحدة، تقول “أحيانا الحياة لصعوبتها تجبرنا على أن نختلي بأنفسنا بعيدا عن كل الناس محاولين استعادة توازننا حتى نستطيع استيعاب كل ما يحدث معنا من مواقف وصدمات”.
وتبين أنها تلجأ للعزلة كلما شعرت بالتعب وتختار غالبا الجامعة التي درست فيها لكونه مكانا عزيزا عليها احتضن الكثير من ذكرياتها.
آيات، ورغم كل الضغوطات التي تحاصرها يوميا، إلا أنها تصر على أن تبقى قوية ولذلك لا تستلم للعزلة بل هي مدركة جدا أن هذا الوقت القصير هو فقط لكي تشحذ طاقتها وتعود لحياتها أقوى من قبل، مؤكدة أنها تتعمد في وقت عزلتها أن تنقطع حتى عن كل مواقع التواصل وإغلاق هاتفها حتى تتمكن من تصفية ذهنها وأخذ القسط اللازم من الراحة.
ويرى الاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، أن العزلة المفيدة هي تلك التي تكون لوقت قصير جدا وتسمى خلوة؛ أي أن الفرق يكمن في طول الوقت الذي يقضيه الإنسان مع نفسه، فكلما طالت المدة أصبحت العزلة حالة مرضية، وخرجت عن نطاق الفائدة إلى مشكلات نفسية أكثر ضررا وهذا بالطبع يولد الإحباط والاكتئاب والحزن والضيق والرغبة الدائمة في الهروب والخوف من المواجهة.
ويبين أنه من المهم جدا أن ينتبه الإنسان للوقت ويبتعد قدر الإمكان عن العزلة الطويلة التي قد تمتد لأيام لأنها حتما تضر بالشخص وتفقده فرصة التمتع بالحياة وبأدق التفاصيل، لكن من دون أن يحرم نفسه من أن يكون له وقت خاص به يقضيه في التأمل وتجديد طاقته.
ويذهب الاختصاصي الاجتماعي الأسري مفيد سرحان، إلى أن الإنسان اجتماعي بطبعه، بمعنى أنه لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين مهما كان موقعه أو علمه أو مكانته الاجتماعية، لأن الاختلاط والتعامل مع الناس لهما فوائد كبيرة على الشخص والمجتمع، فالإنسان يعطي ويأخذ والناس يتناقلون الخبرة والمعارف ويساعدون بعضهم بعضا.
والمساعدة تكون بتقديم النصيحة والرأي والمشورة، فالاختلاط والتواصل مع الآخرين فيهما فوائد نفسية ويعززان من أواصر الألفة والمحبة بين الناس، حتى الصغار بحاجة إلى الاحتكاك مع أقرانهم ليتعلموا منهم ويكتسبوا صفات جديدة ويطوروا من مهاراتهم، ويصبحوا أكثر قدرة على التعامل حتى وإن كان التعامل ومخالطة الآخرين فيهما شيء من التعب والمشقة ويكلفان صاحبهما ماديا إلا أنهما مهمان ومطلوبان.
ومع كل ذلك، ووفق سرحان، فإن الإنسان بحاجة إلى بعض الوقت ليختلي فيه مع نفسه ويعتزل الآخرين اختياريا بعض الوقت الذي يحدده هو نفسه لسبب أو أسباب معينة كالحاجة إلى الراحة الجسدية أو النفسية أو الرغبة في مزيد من التفكير والصفاء الذهني، وقد تكون العزلة داخل البيت نفسه.
وفي حالة وجود مشكلات لها أثر نفسي سيئ، فإن الشخص بحاجة إلى الابتعاد لبعض الوقت وهذا لا يعني التهرب من مواجهة أعباء الحياة ومتطلباتها بل إيجاد نوع من التوازن لأن الراحة النفسية والاستقرار أمران ضروريان للإنسان ليستطيع أن يفكر بشكل صحيح.
ولأن الصحة النفسية تؤثر على الصحة الجسدية والعزلة المدروسة، فهي نوع من الرياضات الذهنية المفيدة للإنسان تمنحه دافعية وقوة جديدة وهمة عالية، واكتساب الشخص شخصية خاصة به بعيدا عن التبعية. والناس جميعم مهما كان عملهم بحاجة إلى وقت ينفردون به بأنفسهم، فبعضهم يختار السفر إلى مكان يخلو مع نفسه أو أسرته، وبعضهم يأخذ إجازة من العمل ويجلس في المنزل، وآخرون يتوقفون عن المشاركة في المناسبات لفترة معينة.
والابتعاد المبرمج عن الآخرين يجعل الشخص أكثر اشتياقا لهم وأكثر قدرة على التركيز والاهتمام والمتابعة والإنتاج، أما العزلة فقد تكون سيئة وسلبية إذا كانت ناتجة عن ظروف نفسية صعبة أو شخصية انطوائية أو الرغبة بالهروب من الواقع أو الخوف من مواجهة الآخرين.