الولايات المتحدة في مفترق طرق.. بين التجديد الاستباقي والانحدار التاريخي*د. حسن عبد الله الدعجة
الغد
صدر في أبريل 2024 عن مركز راند الأميركي تقرير تحليلي موسع تحت عنوان "مصادر الديناميكية الوطنية المتجددة"، تناول فيه الباحثون التحديات البنيوية التي تواجه الولايات المتحدة، محذرين من مخاطر التراجع وفقدان المكانة العالمية في حال عدم المبادرة إلى تجديد وطني استباقي. وقد جاء هذا التقرير ليشكل تحوّلاً لافتاً في مقاربة مراكز التفكير الأميركية لمسألة صعود وهبوط القوى الكبرى، ليس من حيث الاعتراف الضمني بمرحلة التراجع فحسب، بل في طرح نموذج تاريخي واستشرافي لدراسة كيفية استعادة القوة الوطنية الفاعلة. ويعكس التقرير قلقًا متزايدًا في دوائر صنع القرار الأميركي من أن القدرة التنافسية للولايات المتحدة لم تعد مضمونة في ظل المتغيرات الداخلية والدولية.
ينطلق التقرير من فرضية أن صعود وسقوط القوى العظمى ليس استثناءً تاريخيًا، بل جزء من دورات متكررة تخضع لعوامل متعددة، أهمها التكيف البنيوي والقدرة على التجديد في لحظات التحول. وعلى ضوء هذه الفرضية، قام فريق راند بمراجعة عدد من التجارب التاريخية التي شهدت فيها قوى عظمى تراجعًا نسبيًا قبل أن تنجح – أو تفشل – في استعادة زمام المبادرة. ومن بين هذه التجارب: بريطانيا في العصر الفيكتوري، الولايات المتحدة خلال عصر التقدمية في أواخر القرن التاسع عشر، الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات، والصين خلال فتراتها الانتقالية. وقد سعت الدراسة إلى استخلاص دروس عامة من هذه التجارب تساعد في فهم إمكانات التجديد الوطني الأميركي قبل فوات الأوان.
يرى التقرير أن التجديد الاستباقي لأي قوة عظمى لا يمكن أن يتم دون توفر حد أدنى من الشروط الذاتية والموضوعية، من بينها وجود توافق اجتماعي داخلي، وتوافر مؤسسات سياسية مرنة، ووجود قطاع خاص منتج ومبتكر، إضافة إلى قدرة الدولة على توظيف مواردها بطريقة إستراتيجية. كما يلفت إلى أن التجديد الناجح يتطلب اعترافًا واضحًا بالأزمة، وليس مجرد خطاب تجميلي أو دفاعي، لأن الإنكار غالبًا ما يؤدي إلى مزيد من التراجع. وفي هذا السياق، يدعو التقرير إلى ضرورة تجاوز الانقسامات الحزبية الحادة في الولايات المتحدة، التي يرى أنها تمثل عائقًا حقيقيًا أمام أي إصلاح جذري.
وفي مقاربة منهجية، وضع التقرير تسعة مؤشرات رئيسة اعتبرها ضرورية لقياس مدى قدرة الدولة على إطلاق عملية تجديد وطني استباقي، وهي:
استدامة الصمود: وتشير إلى قدرة المجتمع على التكيف مع الأزمات والتحولات دون أن يفقد تماسكه أو ديناميكيته.
القدرة السيادية: وهي قدرة الدولة على الحفاظ على رفاه شعبها مع تأمين الحماية من التهديدات الخارجية.
حرية القرار الدولي: وتعني قدرة الدولة على التصرف خارجياً وفق مصالحها، دون التبعية لقوى أخرى أو تحالفات ضاغطة.
القوة العسكرية: وهي امتلاك أدوات الردع والتفوق العملياتي في مختلف ميادين الصراع التقليدي وغير التقليدي.
التحالفات: مدى قدرة الدولة على بناء شبكة متماسكة وفاعلة من الحلفاء تقوم على المصالح المشتركة، لا على التبعية أو الابتزاز.
القوة الاقتصادية: أي القدرة على التأثير في الاقتصاد العالمي من خلال الناتج المحلي، الإنتاج، التصدير، والقدرة على الابتكار.
هيمنة السوق: وهي التحكم في آليات السوق العالمية، خاصة في القطاعات الحيوية كالتكنولوجيا والطاقة والتمويل.
القوة الثقافية: أي القدرة على التأثير في أنماط التفكير والقيم العالمية من خلال الإعلام والتعليم والفنون.
التفوق التكنولوجي: ويعني امتلاك الريادة في الابتكار التكنولوجي، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والصناعات المتقدمة، والأمن السيبراني.
يشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة، رغم التحديات، لا تزال تحتفظ ببعض عناصر القوة اللازمة لإعادة بناء موقعها العالمي، لكنها في حاجة ملحة إلى مراجعة جذرية لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. كما يؤكد أن الزمن المتاح لإحداث هذا التحول بدأ يضيق، وأن التأخر في إطلاق عملية الإصلاح قد يؤدي إلى نتائج يصعب تداركها، خصوصًا في ظل التقدم السريع الذي تحققه قوى أخرى كالصين في مجالات التجارة والتقنية والجيوسياسة.
التقرير لا ينفي وجود موارد هائلة لدى الولايات المتحدة، لكنه يحذر من أن غياب التوافق الداخلي، واستفحال الانقسامات الحزبية، وتآكل الثقة بالمؤسسات، قد يفرغ هذه الموارد من مضمونها ويجعلها عاجزة عن أداء دورها في استنهاض الأمة. كما يشير إلى أن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في استعادة التفوق العسكري أو الاقتصادي، بل في تجديد الرؤية الوطنية التي تجمع الأميركيين على هدف مشترك، وتعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس العدالة والكفاءة والابتكار.
وإذ يعترف التقرير بأن حالات التجديد الاستباقي الناجحة نادرة في التاريخ، فإنه يلحّ على أن الولايات المتحدة لا تزال تمتلك فرصة لتحقيق ذلك إذا ما أقدمت على خطوات جادة، مدروسة، وشجاعة. كما يؤكد أن التجديد ليس مجرد استجابة لتراجع خارجي، بل هو فعل إرادي يحتاج إلى وعي جماعي، وقيادة قادرة على مخاطبة الجمهور بلغة الصراحة والمسؤولية، لا بلغة التطمين والتغاضي.
بهذا المعنى، فإن التقرير ليس مجرد وثيقة تحليلية، بل بمثابة نداء مبكر إلى ضرورة استباق الانحدار بمبادرات إصلاحية متكاملة، تنبع من الداخل، وتستند إلى الإرث التاريخي الأميركي في تجاوز الأزمات. وقد يكون هذا التحذير – الصادر عن واحدة من أهم المؤسسات البحثية الأميركية – مؤشراً على تحول في إدراك النخب الحاكمة لحجم التحديات التي تواجه بلادهم، واستشعارًا متأخرًا بأن الصعود لا يدوم إلا لمن يجرؤ على المراجعة والتجديد.