الغد
وسط إجماع على أن البيان الوزاري لحكومة الدكتور جعفر حسان لم يكن تقليديا، توقفت المتابعات والتحليلات عند وصف المناقشات النيابية بأنها تقليدية، وأن جلسة اليوم الأول من المناقشات لا تختلف كثيرا عن أي جلسة سابقة لمناقشات الثقة.
وما بين الحالتين تلتقي القراءات والتوقعات على أن الحكومة ستحصل على ثقة مريحة، وقد تكون ثقة تاريخية من حيث عدد الأصوات التي ستحصدها في ختام المناقشات.
فبينما جاء البيان الوزاري للحكومة مختلفا من حيث الصياغة والمضامين، وشاملا لكل المجالات التي تهم المواطن وتشكل جملة مطالبه، ومستندة إلى أرقام يسهل قياسها والتعامل معها، وممتدا في بعض المجالات إلى أكثر من عام، جاءت خطابات الغالبية العظمى من النواب عامة ومطلبية ومناطقية وفردية، وبدا أن التغير السياسي في تركيبة المجلس لم ينعكس على مضامين وشكل المناقشات.
هذه الشهادة التي لا يتوانى البعض من النواب والكثير من المتابعين عن الادلاء بها، ترى في الوقت نفسه أن البيان الوزاري لم يكن مثاليا، لجهة القناعة بأن مضامينه تحتاج إلى مال غير متوفر، وأن الموازنة العامة للدولة تعاني من عجز مزمن، وبالتالي فمن الصعب على حكومة ـ أيا كانت ـ أن تنفذ برنامجا يكلف مليارات الدنانير دون اللجوء إلى التوسع في الاستدانة، وإلى رفع حجم المديونية بشكل كبير، مع أنها تخطت حدودها المقبولة من حيث الحجم ووصلت ـ بحسب قراءات متخصصة ـ إلى مشارف الخطر.
على الصعيد النيابي، كانت القراءات السابقة لـ"ماراثون الثقة"، أكثر ميلا إلى احتمالية انعكاس العامل الحزبي على شكل ومضمون المناقشات من حيث عدد المتحدثين، وفقا للتشكيلة الحزبية للمجلس، وبحيث يكون لكل حزب كلمة أو بيانا يقدمه أحد أعضاء الحزب" الكتلة فيما بعد"، يبين فيه وجهة نظره الشاملة بخصوص التشكيل والبرنامج الحكومي. غير أن الصورة كانت مختلفة، حيث زاد عدد المتحدثين في اليوم الأول عن أربعين نائبا، وزاد عدد الراغبين بالحديث عن مائة نائب. وبما يعيد الصورة التقليدية للتعاطي مع هذا الاستحقاق الدستوري الأساسي، والذي يشكل أبرز محاور الرقابة الدستورية التي يختص بها مجلس النواب.
وفي ذات السياق، جاءت مضامين الكلمات متشابهة، وركزت في معظمها على مطالب مناطقية خدمية تخص دوائر انتخابية دعمت انتخاب المتحدثين، وكثير منها مطالب عامة تهم الوطن، ومعظمها مضى على المطالبة بها عقود طويلة، وتكررت على ألسنة غالبية النواب في كل المجالس التي مرت على القبة، وتعذر تنفيذها لأسباب مالية وروتين حكومي.
من بين تلك المطالب ـ على سبيل المثال ـ محاربة الفقر والبطالة، وتخفيض الضرائب، والتأمين الصحي الشامل، وتوسيع وتحديث المستشفيات وتطوير الرعاية الصحية، وتحسين أوضاع المتقاعدين والموظفين، والتوسع في دعم المزارعين، وإعفائهم من فوائد القروض، وإعادة وزارة التموين، وتكثيف الرقابة على الأسواق، وإلغاء الهيئات المستقلة ودمجها في الوزارات، ومحاربة المحسوبية والفساد.. وغير ذلك من مطالب تتكرر في كل جلسات الثقة على مدى المجالس النيابية المتعاقبة منذ عودة الحياة البرلمانية عام 1984، عندما أعيد آخر مجلس منتخب منذ عام 1966، وأجريت انتخابات فرعية لملء المقاعد التي شغرت بوفاة من أشغلوها. وجاءت تلك الانتخابات "الفرعية" بعدد من النواب يعتقد المتابعون أنهم اضافوا نكهة جديدة للمناقشات لكنها لم تحدث تغييرا جذريا، كما حدث في انتخابات 1989، والذي يجمع الشارع على اعتباره مجلسا تاريخيا، لم يتكرر حتى اللحظة مع أنه لم يكن مجلسا حزبيا كما هو الحال بالنسبة للمجلس الحالي.
فالتوقعات بالنسبة للمجلس الحالي ـ وغالبية أعضائه من الحزبيين ـ ، وأكثرهم من المتحزبين حديثا، أن يحدث نقلة نوعية في مستوى الأداء، وأن تعكف مرجعيات الحزب ونوابه على دراسة البيان الوزاري، بإيجابياته وسلبياته، وبيان الموقف منه، وإبلاغ أعضائه بذلك الموقف، ليكون موقفهم موحدا ويعكسونه في كل ممارساتهم وتصريحاتهم وكلماتهم تحت القبة.
غير أن ما حدث كان مختلفا، حيث كانت الخطابات فردية، ومناطقية، وموجهة مباشرة إلى الشارع ما يعني أن المجلس ما يزال غير متأثر بالتحديث السياسي الذي تبني عليه الدولة الآمال بأن يكون خطوة عملية نحو الحكومات الحزبية.
وذلك يعني أن الكرة في مرمى الأحزاب التي يفترض أن لا تكتفي بمقولة إن الأحزاب ما تزال حديثة، وأنها تحتاج إلى وقت من أجل النضج. فهناك ثوابت حزبية تصنف على اعتبار أنها من الأبجديات التي لا يمكن الخروج عنها.