الغد
يكاد المرء يتفاءل بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب. إذا كانت المحكمة ستمضي قدُمًا في القضية وتوسعها كما ينبغي، فسيكون هذا تطورًا زلزاليًا في مسار المحاسبة الدولية وإنهاض العدالة. لكن القرار يأتي على خلفية عريضة من الشكوك المتأصلة حول نزاهة وكفاءة مؤسسات العدالة العالمية، التي لم تصمد تاريخيًا أمام الضغوط التي تمارسها عليها قوى مسعورة لا تتورع عن فعل شيء لإحباط العدالة.
جاءت مذكرات التوقيف من اتهامات بارتكاب جرائم حرب ممنهجة ارتكبها الكيان الصهيوني، خاصة في غزة، حيث تم توثيق الاستخدام المفرط للقوة الغاشمة، والقصف العشوائي، واستهداف المدنيين. وقد أسست منظمات حقوق الإنسان، ومنها «منظمة العفو الدولية» و»هيومن رايتس ووتش»، بالإضافة إلى الشهادات الفلسطينية وأدلة قدمتها هيئات تحقيق مختلفة، لحجج لا يمكن دحضها ضد كبار قادة الكيان. وكان قرار المحكمة الدولية نتيجة متأخرة كثيرًا لسنوات من النضال الذي خاضته منظمات المجتمع المدني الفلسطينية والدولية، لدفع المحكمة نحو محاسبة مسؤولي الكيان عن جرائم فادحة لا تقل عن الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي والفصل العنصري.
للفلسطينيين، يجلب هذا القرار بصيص أمل نادرا. فعلى مدى عقود طويلة من القمع المنهجي، وسلب الأراضي، وارتكاب جرائم الحرب، أفلت الكيان وقادته دائمًا من العقاب. ويقول تحرك المحكمة الأخير إنه حتى أقوى الشخصيات وأكثرها حصانة قد لا تكون فوق القانون. لكنه يبقى أملًا حذِرًا مثل الكثير من بوارق الأمل التي انطفأت وتلاشت مثل سراب. فقد شهد الفلسطينيون قرارات دولية عديدة لم تُترجم إلى عدالة ملموسة. ويبقى السؤال قائماً حول ما إذا كانت مذكرات المحكمة الدولية ستؤدي هذه المرة إلى محاكمات فعلية أو إدانات، أم أنها ستبقى في منطقة الرمزية التي لا تجلب خبزًا ساخنًا إلى المائدة. لكنها تمثل على الأقل تحديًا للرواية التي تُصور الكيان على أنه خارج نطاق القانون الدولي، وتعطي الفلسطينيين دافعًا إلى تكثيف الدعوات إلى المحاسبة والتضامن الدولي.
لم يكن الوصول إلى هذا القرار سهلاً، ومن المؤكد أنه كان محفوفًا بكمٍّ هائل من الضغوط التي مورست على المحكمة الجنائية الدولية. وهذا بالضبط هو ما يعطيه قيمة إضافية. فلطالما قدمت الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، الحماية للكيان الصهيوني من التدقيق الدولي. ولم يكن ثمة عوز في التقارير التي تحدثت عن ممارسة مسؤولين رفيعي المستوى ضغوطًا على قضاة المحكمة ومدعيها العامين، لإرجاء التحقيقات أو إسقاطها، وتهديدهم بتقليص التمويل أو العزلة الدبلوماسية.
ولم تعمل المحكمة بلا ضغوط عندما يتعلق الأمر بمحاسبة معسكر الشر المتغطرس الذي ينزه نفسه عن المحاسبة. عندما حاولت المحكمة التحقيق في الجرائم الأميركية في أفغانستان في العام 2019، فرضت إدارة ترامب، العائد الآن إلى قيادة «النظام الدولي القائم على القواعد، عقوبات على مسؤولي المحكمة، بمن فيهم المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، وحظرت دخولهم إليها. وشن الكيان الصهيوني وحلفاؤه حملات دبلوماسية مكثفة لإفشال التحقيقات في الأنشطة الاستيطانية الإجرامية بالضفة الغربية، واتهم المحكمة بالتحيز والتسييس. وأظهرت الأنماط من الضغوط ضعف المحكمة وعجزها على أداء دورها باستقلالية، وأكدت على طبيعة التحديات القاهرة التي تفرضها القوى الغاشمة على العدالة الدولية.
إذا تم تنفيذ القرار هذه المرة، فقد يشكل سابقة تاريخية تفتح الباب لمحاسبة مسؤولين آخرين من مرتكبي جرائم الحرب. لكن ذلك يتطلب تعاون الدول الأعضاء في ميثاق المحكمة لتنفيذ مذكراتها، وهو متطلب مشكوك فيه سلفًا بحكم السوابق، وطبيعة التحالفات الدبلوماسية والعسكرية القوية التي تحمي الكيان وقياداته. وكانت ردود الفعل على القرار متباينة، كما هو متوقع، فقد انقسمت الدول العربية ما بين الدعم والانتقاد. وفي حين أيدت فرنسا وبلجيكا الخطوة باعتبارها ضرورة لتحقيق العدالة الدولية، انتقدت المملكة المتحدة المذكرات ووصفتها بأنها «غير مفيدة» في سياق الصراع، وتذرعت بأنه لا يمكن المساواة بين «دولة ديمقراطية» و»منظمة إرهابية» مثل «حماس»، على حد تعبيرها.
لكن الأسوأ على الإطلاق، كالعادة، كان موقف الولايات المتحدة؛ قائدة الهجوم المستمر على العدالة والإنسانية. وصف جو بايدن إصدار المذكرات بأنه «قرار مروع». وأكد بلينكن على موقف واشنطن التقليدي الذي يرى أن «المحكمة الجنائية الدولية» لا تمتلك الصلاحية لمقاضاة مواطني دول غير موقعة على نظامها الأساسي، مثل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة. وكان لا بد من استحضار النفاق الفاضح في موقف الولايات المتحدة التي أشادت بالمحكمة وقراراتها كلما تعلق الأمر بمقاضاة الأعداء أو الفقراء. ويتوقع المراقبون أن تستهدف الولايات المتحدة المحكمة بكل طريقة ممكنة، خاصة مع قدوم ترامب المعروف بتفانيه في حماية الكيان الصهيوني ومعاداة المحكمة بالتحديد.
أياً يكن، ينبغي عدم تفويت بداية الزخم التي وفرها قرار المحكمة. ستكون هذه فرصة لتكبير القضية، والمسارعة إلى طلب مقاضاة داعمي الكيان ومصدري الأسلحة المستخدمة في تنفيذ جرائمه وتأييد أفعاله، خاصة مع قرار «محكمة العدل الدولية» بشأن معقولية ارتكاب الكيان جرائم حرب وإبادة جماعية. بل يمكن الذهاب شوطًا أبعد إلى فتح قضايا المجازر الجماعية التي ارتكبها الكيان بحق الفلسطينيين تاريخيًا، والاحتلال، والاستعمار. ومهما تكن النتائج، فإن صنع موجات لا تني تتسع حول الحجر الذي رمته مذكرات التوقيف في بركة الظلم الآسنة في حق الفلسطينيين لا بد أن تخلق «فوضى» محمودة ومطلوبة في معسكر الكيان وداعميه، عل وعسى.